أحب "حماة" وأحبته، تغنى بجمالها ونواعيرها فأهدته لقب "شاعر النواعير" الذي لازمه إلى قبره، قضى خمسين عاماً من حياته في سبيل التعليم والتربية، تنقل كثيراً داخلياً وخارجياً وحيثما حل ترك أثراً دل عليه، إنه "شاعر النواعير" الأستاذ "عمر يحيى الفرجي".
ولإلقاء نظرة أقرب على حياته الطويلة التي قضاها بين هنا وهناك التقى الأستاذ "طريف الفرجي" ابن الأستاذ "عمر الفرجي" الذي حدثنا عن والده بقوله:
«ولد "عمر الفرجي" في مدينة "حماة" عام (1901م)، والده الشيخ العالم الصالح "يحيى الفرجي"، فقد أباه وأمه في سن الثالثة فذاق منذ طفولته مرارة اليتم وقسوة الحياة، واحتضنه بعدها ابن عمته السيد "نعمان أسعد الكيلاني" وكان من العلماء البارعين في الفقه والنحو والفرائض فحفظ وهو لا يزال طفلاً "القـرآن الكـريم" و"الأجرومية" في النحو والرحبية في الفرائض وقسماً كبيراً من "ألفية ابن مالك"، وكان كثير المطالعة لكل ما تقع عليه يداه من كتب التاريخ والأدب، تتلمذ في سنوات دراسته الأولى على يد الشيخ العلامة الأديب "أحمد الدرويش" في جامع "الشيخ إبراهيم" في "حماة"،
وتابع دراسته في مدرسة إعدادي "حماة" وكان معه على مقاعدها آنذاك رفيقا طفولته شـاعر العاصي "بدر الدين الحامد" والقاضي الشاعر"إبراهيم العظم"، أما دراسته الثانوية فقد أمضاها في "الكلية الصلاحية في القدس" وكان من أصدقائه المعروفين الأديب "قدري العمر" والمجاهد "عثمان الحوراني" وقد تتلمذوا هناك مع رفاق دراستهم على أيدي نخبة المفكرين والأدباء المعروفين في بلاد الشام في تلك الحقبة أمثال "إسعاف النشاشيبي" والشيخ "بدر الدين النعساني" و"أمين سويد" و"محمد رستم" والشيخ "أمين الغوري" والشيخ "موسى البديري" و"وهبي الوفائي" و"جودة الهاشمي".
وفي هذه الفترة درس "عمر يحيى" الآداب العربية والفرنسية والفارسية وبقي في "القدس" إلى أن دخلها الجيش العربي فعاد مع أصدقائه إلى "حماة" وعمل معلماً في المعارف آنذاك، وبعد دخول الجيش الفرنسي إلى سورية
انتسب مع أصدقائه إلى "النادي الأدبي" الذي كان رئيسه الدكتور المجاهد "صالح قنباز" ومعاونه الدكتور "توفيق الشيشكلي"، وفي عام (1924) انتقل الشاعر "عمر يحيى" بعد أن رفض قرار نقله إلى خارج "حماة" إلى مدرسة "دار العلم والتربية" حيث قضى فترة من أخصب فترات حياته علماً وعملاً وجهاداً».
وعن نضاله خارج حدود سورية، قال:
«في عام (1930م) انتقل "عمر يحيى" إلى البحرين بطلب من "ساطع الحصري" الذي كان "رئيساً للمعارف العراقية" آنذاك ملتحقاً برفيقه الأستاذ "عثمان الحوراني" وبقيا هناك ستة أشهر إلى أن اضطرت السلطات الإنكليزية إلى إخراجهما ليلاً إلى "عمان" منفيين بتهمة تنبيه الأفكار وعرض حقيقة الإنكليز ودسائسهم، وبعد أسبوعين من الإقامة في عمان أبحرا إلى "الهند" حيث بقيا فيها شهراً ونصف شهر غادراها بعدها إلى "بغداد" فقضيا فيها ثلاثة أشهر رجعا بعدها إلى "حماة" حيث عاد "عمر يحيى" مدرساً في مدرسة دار العلم والتربية،
في عام (1934م) انتقل إلى "إنطاكية" وأقام فيها سنتين يدرس في مدارسها ومعاهدها وعانى في أثنائها مع رفاقه وتلامذته مأساة سلب اللواء وسلخه عن الوطن الأم، وعاد بعدها إلى "حلب" مدرساً في ثانويتي المأمون (التجهيز الأولى) ومعاوية حتى عام (1950م) حين عاد بعدها إلى "حماة" مديراً للمعارف، وفي عام(1957م) نقل مدرساً للغة العربية في "ثانوية عائشة" لمدة عام واحد نقل بعدها مديراً للمعارف في "حمص" لمدة عام واحد وأحيل إلى التقاعد عام (1960م)، وبعدها انتقل إلى مدينة "حلب" مدرساً للغة العربية وآدابها في مدارسها الخاصة (الثانوية الشرعية ومعهد الأخوة ومعهد حلب العلمي)، وفي عام (1966م) افتتحت
في جامعة حلب كلية الآداب قسم اللغة العربية فاختير "عمر يحيى" من قبل المشرفين عليه، وكانوا كلهم ممن تعلموا اللغة العربية وآدابها على يديه، لتدريس مادتي النحو والعروض واستمر على ذلك سبع سنوات حتى عام (1973م)».
وأضاف:
«أثقل كاهله المرض فأنهى مشواره التعليمي بعد أكثر من خمسين عاماً قضاها في خدمة التربية والتعليم كان فيها الكاتب الكبير والشاعر الجريء والمعلم الكبير والمناضل الثائر، حيث عاش "عمر يحيى" في سنواته الأخيرة مع أهله وتلامذته وأحبابه حياة هانئة إلى أن انتقل إلى جوار ربه في (14/2/1979)، وكان "عمر يحيى" موسوعياً في علمه بآداب اللغة العربية وتاريخها، ألمّ بكل دقائقها، أحبها وعشقها فكان حتى انتقاله إلى جوار ربه مرجعاً لكل من قصـده في أي مسألة تتعلق بها أو بتاريخها.
أجاد اللغات الفرنسية والفارسية وألم بالتركية والإنكليزية، كانت أشعاره وكتاباته ترافقه وتنبع من معاناته للواقع الذي كان يعيشه وأشعاره في القدس وثورة البراق وميسلون ومجاهدة المستعمر الفرنسي والجهاد في البحرين وعمان وأحوال الهند وسلب اللواء ومأساة فلسطين وغيرها أكبر دليل على ذلك، وأصدر في عام (1936م) ديوان "البراعم"، وشارك مع "إحسان النص" و"خليل الهنداوي" في كتاب "الرائد في الأدب العربي" (1948م)، وله عدد كبير من المقالات والترجمات التي نشرت في مجلات الحديث والكشاف في العشرينيات والثلاثينيات.
شارك مع الدكتور "فخر الدين قباوة" في تحقيق كتاب "الوافي في العروض والقوافي(1975م)، قرأ وصحح وراجع كثيراً من الكتب التي كتبها وحققها تلامذته قبل أن تقدم للطباعة، وقد قامت وزارة الثقافة بطباعة ديوانه كاملاً على جزأين الأول عام (1980م) والجزء الثاني عام ( 1988م)، وله عدة كتب مكتوبة بخط يده».
وهذه بعض أبيات من قصيدة "الحبيب المفقود" للشاعر "عمر يحيى" يعبر فيها عن شوقه لـ"حماة":
بدتْ لعينيَ رمزُ الحب أعبدُهُ/ إذْ أقبلتْ وشجاني سحرُ عينَيْها
منّيتُ قلبيَ آمالاً بزَوْرتها/ أقلُّ ما كان منها لثمُ خدَّيْها
مرّتْ كطيفِ خيالٍ تستمدّ بهِ/ نفسُ المحبّ جمالاً من حوالَيْها
يبدو فيخطفُ أبصاراً برؤيتهِ/ ويختفي فيعمّ اليأسُ أُفْقَيْها
عاشتْ بعيداً عن النُظّار يكنفها/ من الخمائل ما يُضني رقيبَيْها
صِنو الحمائم تشدو والجداولَ ما/ بين الخمائل إعجاباً بعِطفَيْها
واهاً لعينين ما نورُ الكواكب في/ إشعاعه بالغاً - ما راع - نورَهُما