حاوره - خالد أبو أحمد:
بعد غيبة طويلة اقتضتها ضرورة البحث والتقصي والإلمام بالمعلومات التاريخية المثبتة، نحن اليوم في سياحة عبر الزمن، نطوف خلالها على أيامٍ شكل تتاليها شخصية البحرين الحديثة.
ضيفنا اليوم أحد أبرز العاملين في حقب الثلاثينات إلى الثمانينات من القرن الماضي، علم من أعلام البحرين، وفذ من أفذاذ عائلة الشروقي العريقة.
سجل التاريخ اسم عبدالله بن سعد الشروقي بأحرف من نور لجليل أعماله الوطنية، ودوره الكبير من خلال مهام كثيرة أداها ومناصب كبيرة تقلدها، وكان مصدر ثقة حكام البحرين السابقين واللاحقين.
تاريخ وإنجازات
تنقل من أصغر وظيفة حتى وكيل وزارة، وكان يتحمل كل الأعباء تقريباً بدافع القوة والنشاط وهو بمقتبل العمر، وتزامن عمله في سنوات بدأت تتشّكل فيها شخصية البحرين، كدولة أثبتت وجودها بجهود أبنائها البررة أمثال ضيفنا الكريم.
الشروقي من الرعيل الأول في الخدمة المدنية، ساهم في تطوير العمل البلدي والإداري، ممن أفنوا زهرة شبابهم في خدمة البحرين في كافة المجالات دون استثناء، ونجد من خلال هذه المقابلة الصحافية أنه الأول في مواقف كثيرة.
أول من عزف السلام الأميري عام 1935، أول من عمل مع الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة في تأسيس الاتحاد البحريني لكرة القدم، وأول من اقترح فكرة دورة الخليج لكرة القدم، وأول من درس التحكيم لكرة القدم في إنجلترا بمعهد مانشستر عام 1956.
ذهبنا إليه في بيته العامر بمنطقة القضيبية بالمنامة استقبلنا بحفاوة وكرم بحريني أصيل، وتذوقنا القهوة مع التمر وتبادلنا معه الأحاديث الجميلة وذكريات الصبا وأيام الشباب والحيوية والسعادة بالعمل من أجل البحرين، من خلال هذا الحوار الذي ساعدني فيه الأخ جاسم محمد إلياس الشروقي، نتجول في صفحات تاريخ البحرين الحديث، وأيام تأسيس الدولة ورجالاتها، لمعرفة أهمية وجود البحرين في المنطقة الخليجية ونظرة الآخرين لدورها الريادي تجاه كثير من القضايا.
بدايات النشأة
*حدثنا عن نفسك.
حقيقة لا أحبذ الحديث عن نفسي، وعندما تقاعدت عن العمل طلبت مني الحكومة وتلفزيون البحرين أن أتحدث عن مسيرتي العملية وعن شخصي ورفضت، باعتبار أن حياتي ملك ليّ، وما قمت به واجب وطني لا أريد تسليط الضوء على نفسي، أرجو أن تسامحني.
*ما الأحداث المهمة في البحرين التي كنت لصيقاً بها؟.
ما عايشته من أحداث كثير ولي فيها مساهمات، أتذكر زيارة ولي عهد السعودية آنذاك سعود بن عبدالعزيز آل سعود للبحرين، كنت حينها ممن كتبوا الخطاب الترحيبي وطبعته على الورق عام 1936، وكنت ضمن من جهزوا للاحتفال ومستلزماته، كنت في عز الشباب وكلي همة ونشاط وحيوية، وخلال الزيارة كانت البحرين مبتهجة وسعيدة، ما يوضح مدى قوة العلاقة بين البلدين والشعبين الشقيقين.
*هل كان في ذلك الزمن طابعات؟
نعم كل الإدارات فيها مطابع زودنا بها المستشار الإنجليزي بلجريف، هذا الرجل كان داهية، بالمناسبة بلجيرف عمل في السودان مستشاراً أمنياً أيام حكم الإنجليز، وبعدها قدم البحرين بعد أن قرأ إعلاناً في إحدى الصحف الإنجليزية آنذاك بحاجة البحرين لمستشار فكانت الوظيفة من صالحه لما له من إمكانات إدارية، أتذكر عندما عمل بلجريف في البحرين كان لديه حرسه الشخصي واسمه عوافي صومالي الجنسية وكان لاعب كرة قدم ماهر، ومحبوباً بين الناس.
تأسيس اتحاد الكرة
*بمناسبة كرة القدم يقال إنك لعبت دوراً كبيراً في تأسيس اتحاد الكرة البحريني؟.
في بداية الخمسينات كانت البحرين تتطلع أكثر لمواكبة التطور، وما كنت أدري أن سيكون لي علاقة بهذا المجال رغم أني لعبت كرة القدم، وذات يوم ذهبت للشيخ محمد بن خليفة آل خليفة في مكتبه، كان حينها مديراً للإقامة والجوازات لأتباحث معه في أمر ما، وبعد أن انتهيت من مهمتي قال لي لماذا لا تساعدني في إنشاء اتحاد لكرة القدم في البحرين؟ قلت له ليس لدي مانع وبالفعل تم ذلك.
عملت مع الشيخ محمد في تأسيس اتحاد كرة القدم عام 1952، وعينت سكرتيراً لرئيس الاتحاد، ثم نائباً لرئيس اتحاد البحرين لكرة القدم منذ ذلك الوقت وحتى السبعينات، وكانت توكل لي كل المهام الإدارية وأعمال السكرتارية، وكنت أجيد الطباعة على الماكينات الإنجليزية القديمة.
*كيف جرت عملية التأسيس؟
أجرينا اتصالات كثيرة ونفذنا الكثير من الأعمال، والإنجليز العاملين في شركة النفط «بابكو» ساعدونا، وحقيقة لم نجد صعوبة في عملية التأسيس، ولم تكن هناك تعقيدات.
يقال إنك أول من طرحت فكرة دورة الخليج لكرة القدم
نعم صحيح، كان ذلك على ما أعتقد منتصف أو نهاية الستينات، بالمناسبة كنت أرأس بعثات المنتخب البحريني لكرة القدم للعب في الدول الخليجية، وأذكر كنت رئيس البعثة لملاقاة منتخب الكويت الوطني وخسرنا النتيجة، وبعد فترة ترأست البعثة البحرينية لملاقاة منتخب قطر، بالفعل كانت دول الخليج تحتاج لدورة تنافسية في كرة القدم لأنها دول شقيقة وبينها الكثير من الروابط الاجتماعية والاقتصادية، فإن الدورة تقوي أواصر هذه العلاقات.
البحرين عقدة للخطوط الجوية والبحرية
*كيف كانت البحرين مقارنة بباقي دول الخليج العربي؟
حقيقة البحرين كانت متطورة في بداية الخمسينات وكانت السعودية في بدايات البحث عن النفط، وكذلك باقي الدول لا تزال في البدايات الأولى للتطور، والمنامة صارت قبلة الزوار من أهل الخليج بالذات لأنهم كانوا يسافرون للبلاد البعيدة عبر بلدنا، وكان مطار البحرين تأسس عام 1937 وبدأ يستقبل الطائرات من الدول الكبيرة قبل أن تنشأ الخدمات المنتظمة.
كان مطار البحرين عبارة عن أرض مسطحة، وآنذاك لم يكن لدول الخليج العربي شركات طيران ولا مطارات، وفي عام 1950 بدأت الخطوط البريطانية في الوصول لمطار البحرين الدولي في المحرق وبصورة منتظمة، وكان اسمها آنذاك «برتش إمبريال آيرويز».
وتجسد التطور في البحرين في كونها ملتقى طرق بحرية، وكان أهلنا الخليجيين يأتون هنا لأسباب كثيرة منها للتسوق والتبضع والتزود بالمطبوعات والسفر من البحرين إلى أي مكان، وكانت المنامة حلقة الوصل ما بين البصرة والكويت ودبي ومسقط وبيروت وبومباي آنذاك كانت مزدهرة بالعرب من تجار اللؤلؤ، وكذلك كانت المنامة مدخل لدول الخليج إذ يعبر القادمون إليها عبر البحرين في الذهاب والإياب، وكانت أهم وسيلة للسفر عبر البحر شركة أنديال برتش أيرلاين، كانت لها سُفن وبواخر تنقل الركاب من البحرين والبلاد الأخرى وبالعكس، يعني البحرين كانت محطة مهمة في طرق المواصلات البحرية والجوية على السواء.
البحرين محطة ثقافية
*يعني يمكن القول إن البحرين كانت بوابة دول الخليج لدخول الثقافة؟.
نعم بكل تأكيد فإن عبور الثقافات المتعددة والمختلفة عبر البحرين والتعامل مع الزوار والتجار بكل جنسياتهم ولغاتهم المختلفة، كان سبباً في تفرد البحرين ثقافياً ومعرفياً، وصادف ذلك استخراج البترول في وقت مبكر سبق كل دول المنطقة، ومنذ الأربعينات كانت البحرين تتطور في كافة المجالات وحتى اليوم.
كانت الصُحف المصرية تصلنا باستمرار، وكنا مشتركين فيها وأذكر منها جريدة اللطائف المصورة وجريدة الأهرام، وكان الناس يقرأونها في الأندية الأدبية المنتشرة في مدن البحرين، وفي المحرق كان الشباب والمثقفون يتجمعون في المنتدى الإسلامي قرب بناية المؤيد الكبيرة مقابل بنك البحرين الوطني، يطالعون الصحف والمجلات ويتناقشون أمور الثقافة والأدب، وكانت لدى الأستاذ سلمان كمال مكتبة كبيرة وكان مواطنو دول الخليج يأتون للبحرين ليتزودوا منها بكتب وصحف ومجلات تصلنا من مصر ولبنان ودول أخرى.
وحسب التواصل البحري بين البحرين والبصرة في العراق كانت تأتي أيضاً الكتب المؤلفة والمطبوعة هناك، ومن بيروت أيضاً تأتي الكتب وغيرها، وأن التواصل بين هذه المحاور مكن البحرينيون من الاطلاع على الكتب في كافة المجالات والإصدارات الحديثة من شعر ورواية وغيرها، حيث أن البحرين والبصرة وبيروت والقاهرة بينهم روابط ثقافية وتاريخية قديمة.
*ما الأشياء التي ميزت البحرين عن باقي دول الخليج العربي؟
أشياء كثيرة لأن البحرين كانت سباقة في كل شيء، كانت الأولى في إنشاء البلديات واستخراج البترول والإحصاء، بالمناسبة كنت مشرفاً على أول إحصاء في البحرين وكان معي سيد محمود وأعددنا وأشرفنا على عملية التعداد عام 1952 وعدد السكان كان حينها 52 ألف نسمة، البحرين أيضاً كانت الأولى في استقبال الطيران العالمي وأول شركة طيران قدمت الخليج وحطت في البحرين وهي الخطوط الملكية البريطانية، والبحرين الأولى في إنشاء المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية وابتعاث المدرسين للخارج، واشتهرت مدينة الحد بالمدرسين وكان أبناؤها يعملون في التدريس في كل مناطق البحرين، بل كانت بعض الدول العربية تطلب مدرسين من البحرين.
*ما قصة دراستك التحكيم في إنجلترا؟
والله هذه قصة طريفة بعض الشيء، في مرة من المرات بعثني رئيس البلدية آنذاك الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة إلى إنجلترا في إطار عمل الإدارة، كنت حينها موظفاً صغيراً وصادف وجودي هناك الشيخ عطية الله آل خليفة وأيضاً كان مبتعثاً من حكومة البحرين في فترة تدريبية، ويوماً ما كنت في ميدان كرة أقف لمشاهدة مباراة وكان مجموعة من الإنجليز يلعبون الكرة وكنت أقف أشاهدهم فطلبوا مني تحكيم المباراة قلت لهم «أوكي» سلموني الصفارة فخلعت بدلتي ودخلت الملعب، وحكمت المباراصة أعجبوا بإدارتي في التحكيم ووقفوا وتحدثوا معي وتعرفوا عليّ وشكروني وقالوا ليّ إنك مؤهل أن تكون حكم كرة قدم لأنك أدرت المباراة بشكل يدل على صلتك بالتحكيم، فقلت لهم لا ليس لدي صلة بالتحكيم لكني لعبت كرة القدم والذي يلعب الكرة بكل تأكيد يلم بأساسيات التحكيم الكروي، فقدموا لي اقتراحاً بأن أنال دورة في التحكيم ببريطانيا فوافقت على الفور.
ورجعت البحرين ثم عدت مرة أخرى لإنجلترا وحضرت دورة تحكيم كرة القدم في معهد مانشستر للتحكيم، وامتحنت وحصلت على شارة تمكنني من ممارسة هذا النشاط الرياضي، وكنت محتفظاً بها لفترة طويلة لكن للأسف أولادي في البيت أضاعوها مني وكنت أنوي الاحتفاظ بها.
وفترة غيابي في إنجلترا أثرت على العمل لأني كنت أحمل أعباءً كثيرة إدارية وعملية ومهام السكرتارية ومنها طباعة الخطابات والرسائل والمذكرات الخاصة بالعمل، لذا وصلت وانكفيت على العمل لأعوض فترة غيابي في إنجلترا بالدورة التدريبية.
بدايات تدفق النفط
* هل تذكر أيام التنقيب عن النفط في البحرين؟
نعم بكل تأكيد، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية جاءت أول شركة للتنقيب عن النفط في البحرين، وكان رئيس الشركة أسترالي الجنسية اسمه مستر هومس، رجل كريم سكن قرب بيت يتيم في المنامة، وفي أيام الأعياد كان يجلس على «زولية» ومعه كمية كبيرة من الفلوس ويعطي أطفال الحارة روبيتين وفي تلك الأيام كانت الروبيتين مبلغاً كبيراً في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، هذا الأسترالي أخذ امتياز الشركة وباع حقوقها لشركة نفط البحرين «بابكو»، واستلم حقوقه وغادر البحرين، وأتذكر أول مدير لشركة «بابكو» كان مستر أسكنر، طبعاً البحرين كانت صغيرة المساحة وكنا نعرف أسماء الأجانب في الشركات الكبيرة.
*متى بدأ التعليم في البحرين؟.
بعد الحرب العالمية الثانية جاء الإنجليز إلى مدينة البصرة في العراق ونزلوا فيها وعمروها وطوروها وأنشأوا فيها مطاراً بحرياً، كان الأول في العراق، ولم يكن في منطقة الخليج مطارات ولا وجود لشركات طيران، مدينة البصرة كانت عامرة بالنشاط الاقتصادي والتجاري والثقافي، كان فيها قنصلية أنجليزية، وعندما جاءها الإنجليز عملوا على التبشير بالدين المسيحي، وكانت العراق الدولة الخليجية الأولى التي يبدأ فيها التبشير الكنسي وهؤلاء المبشرون جاؤوا من أمريكا بمساعدة الإنجليز، ومن البصرة مباشرةً جاؤوا إلى البحرين عام 1898 وفتحوا أول مستشفى وهو مستشفى الإرسالية في ذات العام.
ومن خلال وجودهم في البحرين بدؤوا عملهم في ممارسة التعليم كمدرسة تبشير، وبعد فترة انتبهت الحكومة لهذا الشيء فتم إنشاء مدرسة الهداية الخليفة في المحرق، ومدرسة ثانية باسم الهداية الخليفية في المنامة وأنا شخصياً درست فيها، لكن ناس المحرق لم يعترفوا بمدرسة الهداية في المنامة واعترفوا فقط بمدرسة الهداية الخليفية في المحرق ويعتزون بها غاية الاعتزاز.
*في أي موقع كانت الهداية الخليفية بالمنامة؟
تقع في المنامة ولا تزال موجودة حتى الآن، لكن غيرنا اسمها لمدرسة «أم المؤمنين» لأنها تقع في حارة يسكنها الأخوة الشيعة، وكان أساتذتها من سوريا، وأتذكر آخر مدير لهذه المدرسة فلسطيني من غزة كانت في تلك الأيام تحت حكم الإنجليز، وكان المدير صديقاً للأسرة لأن بيتنا كان قريباً من المدرسة وكان المعلمون في المدرسة يعزموننا على وجباتهم في المناسبات ورمضان والأعياد وكنت صغيراً وأبي توفى وعمري 5 سنوات.
قصة آل الشروقي
*ماذا عن أسرتك؟
طبعاً أسرتي آل الشروقي من بادية دبي بالإمارات العربية، وهم أهل بحر وكانوا أصحاب سفن كبيرة ولهم سمعتهم في عالم البحر الواسع، واشتهروا بالخبرة والحنكة في العمل داخل البحر، وكانت لهم سفن كبيرة يعرفها القاصي والداني وعملوا في الغوص ولهم سيرة كبيرة في هذا المجال، وآل الشروقي أنعشوا الغوص وتجارة اللؤلؤ في البحرين، وبرعوا في النقل البحري، ومن خلال عملهم في البحر كانوا ينقلون الأغراض من مكان لآخر في المنطقة الخليجية كلها، واشتهروا بالخبرة في معرفة البحار والتعامل مع تقلباته، واستأجرهم آل خليفة لنقل أغراضهم من الزبارة للبحرين، وبعد أن وصلوا المحرق طلبوا منهم أن يقيموا في البحرين ويعيشوا فيها.
وقال آل خليفة لآل الشروقي «أقيموا في البحرين قد نحتاجكم مرة أخرى»، ففعلوا فأعطوهم قطعة أرض كبيرة في منطقة الحد حيث لا زالوا يعيشون في هذه المنطقة البحرية، وشارك أبناء آل الشروقي في مستقبل الأيام مع الآخرين في نهضة وتطور البحرين في كافة المجالات.
*ما هي قصة الشيخ عبدالله بن عيسى واحتفالات أهل المحرق بعودته من إنجلترا؟
القصة تعبر عن وفاء أهل المحرق وحبهم واعتزازهم بآل خليفة الكرام، وفي تاريخ 23 نوفمبر 1919 احتفلت منطقتي المحرق والمنامة احتفالاً كبيراً وتاريخياً استقبالاً للشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة عندما جاء من لندن عن طريق بيروت البصرة البحرين، بعد رحلة علاجية من مرض داهمه فترة من الزمن.
عُرف الشيخ عبدالله بن عيسى بمناكفته ومشاكسته للإنجليز، وعندما انتهى من الفترة العلاجية هناك عاد للبحرين ببارجة عسكرية إنجليزية اسمها «شُوّرّم»، وفي ذلك التاريخ أنا كنت وُلدت، لكن هذه الحادثة كانت مثار حديث لسنوات طويلة، لأن الاحتفال والفرحة بعودة الشيخ عبدالله من رحلة العلاج كان احتفالاً كبيراً وابتهجت المحرق والحد بهذه المناسبة.
*ما السر في حب أهل المحرق عموماً لآل خليفة؟
طبعاً آل خليفة عاشوا في المحرق من زمان طويل وتربطهم بالأهالي علاقات محبة واحترام وتقدير وصداقة بل علاقات دم ورحم، آل خليفة تزوجوا وصاهروا العديد من العائلات المحرقية العريقة، فهم عاشوا بين الناس ولم ينفصلوا عنهم، ومن هنا تأتي هذه العلاقات القوية الراسخة وسجل التاريخ البحريني الكثير من المواقف في ارتباط آل خليفة بأهالي المحرق والمنامة.
*ما شكل علاقاتك بالشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وأنت موظف كبير في الدولة؟
علاقتي بكل الشيوخ كانت جيدة للغاية، وبحكم العمل والمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقي، ربطتني بهم أواصر المحبة والتقدير ومن أشكال العلاقة مع سمو الأمير السابق الشيخ عيسى بن سلمان، كان كلفني مرة بمهمة علاج حاكم أم القوين الشيخ أحمد المعلا الذي كان يعاني من مرض، والسفر معه إلى الهند مع ابنيه عام 1973، وأعطاني سمو الأمير حوالة مالية مفتوحة للصرف على علاج الشيخ، وبالفعل وصلنا الهند ونزلنا في فندق كبير، وأعددنا كل لوازم الضيافة لزوار حاكم أم القوين ممن يريدون الاطمئنان والسلام عليه باعتباره حاكماً.
وهذه كانت لها أصولها وتقاليدها المرعية، وباشرنا العلاج، وبعد أن فرغنا من المهمة العلاجية بعث لنا سمو الأمير بطائرة خاصة أقلتنا من الهند إلى البحرين، وكشف الطبيب أن الشيخ يعاني من مرض السُكر وتم علاجه وعرف الكيفية التي يتعالج به بنفسه وكيفية أخذ الإبرة كلما شعر بزيادة السكر في دمه، وفي تلك الأيام لم يكن مرض السكري معروفاً لدى عامة الناس.
والغريب أن ابن حاكم أم القوين الشيخ راشد بن أحمد المُعلا بعد عامين من علاج والده، أرسل كتاباً لسمو الأمير يطلب فيها علاجه من المرض، وكانت البحرين بعد ذلك أنشأت المستشفيات المتطورة خلافاً لباقي دول الخليج فتم علاجه في البحرين، ورجع شاكراً ومقدراً للشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة كرمه وجوده.
في الحقيقة كان حكام الخليج ولازالوا يتعاونون مع بعضهم البعض كأسرة واحدة وحقيقةً البحرين كانت سبقت كل الدول الخليجية في التطور وتقديم الخدمات التي يحتاجها المواطنون، وكانت قبلة للجميع من الحُكام وأبناء الخليج عموماً.
وربطتني بالأمير السابق الشيخ عيسى بن سلمان علاقة محبة وتقدير، كنت مصدر ثقة بالنسبة لحُكام البحرين السابقين واللاحقين وكنت مستعداً لأداء أي مهام أكلف بها داخلياً أو خارجياً، ولم أتوان أبداً في خدمة بلدي البحرين.
*في الثلاثينات كنت يافعاً وعملت في البلديات فترة طويلة من الزمن وتنقلت حتى وصلت إلى منصب وكيل وزارة.. ما مهام البلديات في ذلك الزمن؟
البلديات في ذلك الوقت كانت هي الكل بالكل، وكنا ننظم البلد بكاملها الأسواق والمحال التجارية والمرافق الرسمية، ونتولى مهام النظافة وكان لدينا أسطول ضخم من السيارات والناقلات وكنت شخصياً مسؤولاً عن هذا الأمر، إضافة إلى التفتيش الصحي والتأكد من سلامة ونظافة المطاعم والمحال التجارية، ولم يكن هناك وجود لشركات النظافة وكان البحرينيون هم من يؤدون هذا العمل وعلى أكمل وجه ولم يكن هناك من يرى هذا العمل معيباً.
*ما أكثر المواقف في حياتك لا تنساها أبداً؟
كثيرة هي المواقف في حياتي لكن أكثرها أهمية كان تتويج حاكم البحرين الأسبق الشيخ حمد بن عيسى الكبير، كنت أعزف على الموسيقى في المدرسة في عمر الثامنة، وكان الاحتفال تاريخياً بمعنى الكلمة، تعلمنا العزف في الفرقة الموسيقية من ضابط في الجيش الإيراني كان هرب إلى البحرين اسمه هاشدان، ومن المواقف التاريخية التي لا أنساها أيضاً كنت أول من عزف السلام الأميري في البحرين عام 1935 انظر صحيفة الوطن - العدد 2568 الجمعة 21 ديسمبر 2012
بعد غيبة طويلة اقتضتها ضرورة البحث والتقصي والإلمام بالمعلومات التاريخية المثبتة، نحن اليوم في سياحة عبر الزمن، نطوف خلالها على أيامٍ شكل تتاليها شخصية البحرين الحديثة.
ضيفنا اليوم أحد أبرز العاملين في حقب الثلاثينات إلى الثمانينات من القرن الماضي، علم من أعلام البحرين، وفذ من أفذاذ عائلة الشروقي العريقة.
سجل التاريخ اسم عبدالله بن سعد الشروقي بأحرف من نور لجليل أعماله الوطنية، ودوره الكبير من خلال مهام كثيرة أداها ومناصب كبيرة تقلدها، وكان مصدر ثقة حكام البحرين السابقين واللاحقين.
تاريخ وإنجازات
تنقل من أصغر وظيفة حتى وكيل وزارة، وكان يتحمل كل الأعباء تقريباً بدافع القوة والنشاط وهو بمقتبل العمر، وتزامن عمله في سنوات بدأت تتشّكل فيها شخصية البحرين، كدولة أثبتت وجودها بجهود أبنائها البررة أمثال ضيفنا الكريم.
الشروقي من الرعيل الأول في الخدمة المدنية، ساهم في تطوير العمل البلدي والإداري، ممن أفنوا زهرة شبابهم في خدمة البحرين في كافة المجالات دون استثناء، ونجد من خلال هذه المقابلة الصحافية أنه الأول في مواقف كثيرة.
أول من عزف السلام الأميري عام 1935، أول من عمل مع الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة في تأسيس الاتحاد البحريني لكرة القدم، وأول من اقترح فكرة دورة الخليج لكرة القدم، وأول من درس التحكيم لكرة القدم في إنجلترا بمعهد مانشستر عام 1956.
ذهبنا إليه في بيته العامر بمنطقة القضيبية بالمنامة استقبلنا بحفاوة وكرم بحريني أصيل، وتذوقنا القهوة مع التمر وتبادلنا معه الأحاديث الجميلة وذكريات الصبا وأيام الشباب والحيوية والسعادة بالعمل من أجل البحرين، من خلال هذا الحوار الذي ساعدني فيه الأخ جاسم محمد إلياس الشروقي، نتجول في صفحات تاريخ البحرين الحديث، وأيام تأسيس الدولة ورجالاتها، لمعرفة أهمية وجود البحرين في المنطقة الخليجية ونظرة الآخرين لدورها الريادي تجاه كثير من القضايا.
بدايات النشأة
*حدثنا عن نفسك.
حقيقة لا أحبذ الحديث عن نفسي، وعندما تقاعدت عن العمل طلبت مني الحكومة وتلفزيون البحرين أن أتحدث عن مسيرتي العملية وعن شخصي ورفضت، باعتبار أن حياتي ملك ليّ، وما قمت به واجب وطني لا أريد تسليط الضوء على نفسي، أرجو أن تسامحني.
*ما الأحداث المهمة في البحرين التي كنت لصيقاً بها؟.
ما عايشته من أحداث كثير ولي فيها مساهمات، أتذكر زيارة ولي عهد السعودية آنذاك سعود بن عبدالعزيز آل سعود للبحرين، كنت حينها ممن كتبوا الخطاب الترحيبي وطبعته على الورق عام 1936، وكنت ضمن من جهزوا للاحتفال ومستلزماته، كنت في عز الشباب وكلي همة ونشاط وحيوية، وخلال الزيارة كانت البحرين مبتهجة وسعيدة، ما يوضح مدى قوة العلاقة بين البلدين والشعبين الشقيقين.
*هل كان في ذلك الزمن طابعات؟
نعم كل الإدارات فيها مطابع زودنا بها المستشار الإنجليزي بلجريف، هذا الرجل كان داهية، بالمناسبة بلجيرف عمل في السودان مستشاراً أمنياً أيام حكم الإنجليز، وبعدها قدم البحرين بعد أن قرأ إعلاناً في إحدى الصحف الإنجليزية آنذاك بحاجة البحرين لمستشار فكانت الوظيفة من صالحه لما له من إمكانات إدارية، أتذكر عندما عمل بلجريف في البحرين كان لديه حرسه الشخصي واسمه عوافي صومالي الجنسية وكان لاعب كرة قدم ماهر، ومحبوباً بين الناس.
تأسيس اتحاد الكرة
*بمناسبة كرة القدم يقال إنك لعبت دوراً كبيراً في تأسيس اتحاد الكرة البحريني؟.
في بداية الخمسينات كانت البحرين تتطلع أكثر لمواكبة التطور، وما كنت أدري أن سيكون لي علاقة بهذا المجال رغم أني لعبت كرة القدم، وذات يوم ذهبت للشيخ محمد بن خليفة آل خليفة في مكتبه، كان حينها مديراً للإقامة والجوازات لأتباحث معه في أمر ما، وبعد أن انتهيت من مهمتي قال لي لماذا لا تساعدني في إنشاء اتحاد لكرة القدم في البحرين؟ قلت له ليس لدي مانع وبالفعل تم ذلك.
عملت مع الشيخ محمد في تأسيس اتحاد كرة القدم عام 1952، وعينت سكرتيراً لرئيس الاتحاد، ثم نائباً لرئيس اتحاد البحرين لكرة القدم منذ ذلك الوقت وحتى السبعينات، وكانت توكل لي كل المهام الإدارية وأعمال السكرتارية، وكنت أجيد الطباعة على الماكينات الإنجليزية القديمة.
*كيف جرت عملية التأسيس؟
أجرينا اتصالات كثيرة ونفذنا الكثير من الأعمال، والإنجليز العاملين في شركة النفط «بابكو» ساعدونا، وحقيقة لم نجد صعوبة في عملية التأسيس، ولم تكن هناك تعقيدات.
يقال إنك أول من طرحت فكرة دورة الخليج لكرة القدم
نعم صحيح، كان ذلك على ما أعتقد منتصف أو نهاية الستينات، بالمناسبة كنت أرأس بعثات المنتخب البحريني لكرة القدم للعب في الدول الخليجية، وأذكر كنت رئيس البعثة لملاقاة منتخب الكويت الوطني وخسرنا النتيجة، وبعد فترة ترأست البعثة البحرينية لملاقاة منتخب قطر، بالفعل كانت دول الخليج تحتاج لدورة تنافسية في كرة القدم لأنها دول شقيقة وبينها الكثير من الروابط الاجتماعية والاقتصادية، فإن الدورة تقوي أواصر هذه العلاقات.
البحرين عقدة للخطوط الجوية والبحرية
*كيف كانت البحرين مقارنة بباقي دول الخليج العربي؟
حقيقة البحرين كانت متطورة في بداية الخمسينات وكانت السعودية في بدايات البحث عن النفط، وكذلك باقي الدول لا تزال في البدايات الأولى للتطور، والمنامة صارت قبلة الزوار من أهل الخليج بالذات لأنهم كانوا يسافرون للبلاد البعيدة عبر بلدنا، وكان مطار البحرين تأسس عام 1937 وبدأ يستقبل الطائرات من الدول الكبيرة قبل أن تنشأ الخدمات المنتظمة.
كان مطار البحرين عبارة عن أرض مسطحة، وآنذاك لم يكن لدول الخليج العربي شركات طيران ولا مطارات، وفي عام 1950 بدأت الخطوط البريطانية في الوصول لمطار البحرين الدولي في المحرق وبصورة منتظمة، وكان اسمها آنذاك «برتش إمبريال آيرويز».
وتجسد التطور في البحرين في كونها ملتقى طرق بحرية، وكان أهلنا الخليجيين يأتون هنا لأسباب كثيرة منها للتسوق والتبضع والتزود بالمطبوعات والسفر من البحرين إلى أي مكان، وكانت المنامة حلقة الوصل ما بين البصرة والكويت ودبي ومسقط وبيروت وبومباي آنذاك كانت مزدهرة بالعرب من تجار اللؤلؤ، وكذلك كانت المنامة مدخل لدول الخليج إذ يعبر القادمون إليها عبر البحرين في الذهاب والإياب، وكانت أهم وسيلة للسفر عبر البحر شركة أنديال برتش أيرلاين، كانت لها سُفن وبواخر تنقل الركاب من البحرين والبلاد الأخرى وبالعكس، يعني البحرين كانت محطة مهمة في طرق المواصلات البحرية والجوية على السواء.
البحرين محطة ثقافية
*يعني يمكن القول إن البحرين كانت بوابة دول الخليج لدخول الثقافة؟.
نعم بكل تأكيد فإن عبور الثقافات المتعددة والمختلفة عبر البحرين والتعامل مع الزوار والتجار بكل جنسياتهم ولغاتهم المختلفة، كان سبباً في تفرد البحرين ثقافياً ومعرفياً، وصادف ذلك استخراج البترول في وقت مبكر سبق كل دول المنطقة، ومنذ الأربعينات كانت البحرين تتطور في كافة المجالات وحتى اليوم.
كانت الصُحف المصرية تصلنا باستمرار، وكنا مشتركين فيها وأذكر منها جريدة اللطائف المصورة وجريدة الأهرام، وكان الناس يقرأونها في الأندية الأدبية المنتشرة في مدن البحرين، وفي المحرق كان الشباب والمثقفون يتجمعون في المنتدى الإسلامي قرب بناية المؤيد الكبيرة مقابل بنك البحرين الوطني، يطالعون الصحف والمجلات ويتناقشون أمور الثقافة والأدب، وكانت لدى الأستاذ سلمان كمال مكتبة كبيرة وكان مواطنو دول الخليج يأتون للبحرين ليتزودوا منها بكتب وصحف ومجلات تصلنا من مصر ولبنان ودول أخرى.
وحسب التواصل البحري بين البحرين والبصرة في العراق كانت تأتي أيضاً الكتب المؤلفة والمطبوعة هناك، ومن بيروت أيضاً تأتي الكتب وغيرها، وأن التواصل بين هذه المحاور مكن البحرينيون من الاطلاع على الكتب في كافة المجالات والإصدارات الحديثة من شعر ورواية وغيرها، حيث أن البحرين والبصرة وبيروت والقاهرة بينهم روابط ثقافية وتاريخية قديمة.
*ما الأشياء التي ميزت البحرين عن باقي دول الخليج العربي؟
أشياء كثيرة لأن البحرين كانت سباقة في كل شيء، كانت الأولى في إنشاء البلديات واستخراج البترول والإحصاء، بالمناسبة كنت مشرفاً على أول إحصاء في البحرين وكان معي سيد محمود وأعددنا وأشرفنا على عملية التعداد عام 1952 وعدد السكان كان حينها 52 ألف نسمة، البحرين أيضاً كانت الأولى في استقبال الطيران العالمي وأول شركة طيران قدمت الخليج وحطت في البحرين وهي الخطوط الملكية البريطانية، والبحرين الأولى في إنشاء المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية وابتعاث المدرسين للخارج، واشتهرت مدينة الحد بالمدرسين وكان أبناؤها يعملون في التدريس في كل مناطق البحرين، بل كانت بعض الدول العربية تطلب مدرسين من البحرين.
*ما قصة دراستك التحكيم في إنجلترا؟
والله هذه قصة طريفة بعض الشيء، في مرة من المرات بعثني رئيس البلدية آنذاك الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة إلى إنجلترا في إطار عمل الإدارة، كنت حينها موظفاً صغيراً وصادف وجودي هناك الشيخ عطية الله آل خليفة وأيضاً كان مبتعثاً من حكومة البحرين في فترة تدريبية، ويوماً ما كنت في ميدان كرة أقف لمشاهدة مباراة وكان مجموعة من الإنجليز يلعبون الكرة وكنت أقف أشاهدهم فطلبوا مني تحكيم المباراة قلت لهم «أوكي» سلموني الصفارة فخلعت بدلتي ودخلت الملعب، وحكمت المباراصة أعجبوا بإدارتي في التحكيم ووقفوا وتحدثوا معي وتعرفوا عليّ وشكروني وقالوا ليّ إنك مؤهل أن تكون حكم كرة قدم لأنك أدرت المباراة بشكل يدل على صلتك بالتحكيم، فقلت لهم لا ليس لدي صلة بالتحكيم لكني لعبت كرة القدم والذي يلعب الكرة بكل تأكيد يلم بأساسيات التحكيم الكروي، فقدموا لي اقتراحاً بأن أنال دورة في التحكيم ببريطانيا فوافقت على الفور.
ورجعت البحرين ثم عدت مرة أخرى لإنجلترا وحضرت دورة تحكيم كرة القدم في معهد مانشستر للتحكيم، وامتحنت وحصلت على شارة تمكنني من ممارسة هذا النشاط الرياضي، وكنت محتفظاً بها لفترة طويلة لكن للأسف أولادي في البيت أضاعوها مني وكنت أنوي الاحتفاظ بها.
وفترة غيابي في إنجلترا أثرت على العمل لأني كنت أحمل أعباءً كثيرة إدارية وعملية ومهام السكرتارية ومنها طباعة الخطابات والرسائل والمذكرات الخاصة بالعمل، لذا وصلت وانكفيت على العمل لأعوض فترة غيابي في إنجلترا بالدورة التدريبية.
بدايات تدفق النفط
* هل تذكر أيام التنقيب عن النفط في البحرين؟
نعم بكل تأكيد، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية جاءت أول شركة للتنقيب عن النفط في البحرين، وكان رئيس الشركة أسترالي الجنسية اسمه مستر هومس، رجل كريم سكن قرب بيت يتيم في المنامة، وفي أيام الأعياد كان يجلس على «زولية» ومعه كمية كبيرة من الفلوس ويعطي أطفال الحارة روبيتين وفي تلك الأيام كانت الروبيتين مبلغاً كبيراً في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، هذا الأسترالي أخذ امتياز الشركة وباع حقوقها لشركة نفط البحرين «بابكو»، واستلم حقوقه وغادر البحرين، وأتذكر أول مدير لشركة «بابكو» كان مستر أسكنر، طبعاً البحرين كانت صغيرة المساحة وكنا نعرف أسماء الأجانب في الشركات الكبيرة.
*متى بدأ التعليم في البحرين؟.
بعد الحرب العالمية الثانية جاء الإنجليز إلى مدينة البصرة في العراق ونزلوا فيها وعمروها وطوروها وأنشأوا فيها مطاراً بحرياً، كان الأول في العراق، ولم يكن في منطقة الخليج مطارات ولا وجود لشركات طيران، مدينة البصرة كانت عامرة بالنشاط الاقتصادي والتجاري والثقافي، كان فيها قنصلية أنجليزية، وعندما جاءها الإنجليز عملوا على التبشير بالدين المسيحي، وكانت العراق الدولة الخليجية الأولى التي يبدأ فيها التبشير الكنسي وهؤلاء المبشرون جاؤوا من أمريكا بمساعدة الإنجليز، ومن البصرة مباشرةً جاؤوا إلى البحرين عام 1898 وفتحوا أول مستشفى وهو مستشفى الإرسالية في ذات العام.
ومن خلال وجودهم في البحرين بدؤوا عملهم في ممارسة التعليم كمدرسة تبشير، وبعد فترة انتبهت الحكومة لهذا الشيء فتم إنشاء مدرسة الهداية الخليفة في المحرق، ومدرسة ثانية باسم الهداية الخليفية في المنامة وأنا شخصياً درست فيها، لكن ناس المحرق لم يعترفوا بمدرسة الهداية في المنامة واعترفوا فقط بمدرسة الهداية الخليفية في المحرق ويعتزون بها غاية الاعتزاز.
*في أي موقع كانت الهداية الخليفية بالمنامة؟
تقع في المنامة ولا تزال موجودة حتى الآن، لكن غيرنا اسمها لمدرسة «أم المؤمنين» لأنها تقع في حارة يسكنها الأخوة الشيعة، وكان أساتذتها من سوريا، وأتذكر آخر مدير لهذه المدرسة فلسطيني من غزة كانت في تلك الأيام تحت حكم الإنجليز، وكان المدير صديقاً للأسرة لأن بيتنا كان قريباً من المدرسة وكان المعلمون في المدرسة يعزموننا على وجباتهم في المناسبات ورمضان والأعياد وكنت صغيراً وأبي توفى وعمري 5 سنوات.
قصة آل الشروقي
*ماذا عن أسرتك؟
طبعاً أسرتي آل الشروقي من بادية دبي بالإمارات العربية، وهم أهل بحر وكانوا أصحاب سفن كبيرة ولهم سمعتهم في عالم البحر الواسع، واشتهروا بالخبرة والحنكة في العمل داخل البحر، وكانت لهم سفن كبيرة يعرفها القاصي والداني وعملوا في الغوص ولهم سيرة كبيرة في هذا المجال، وآل الشروقي أنعشوا الغوص وتجارة اللؤلؤ في البحرين، وبرعوا في النقل البحري، ومن خلال عملهم في البحر كانوا ينقلون الأغراض من مكان لآخر في المنطقة الخليجية كلها، واشتهروا بالخبرة في معرفة البحار والتعامل مع تقلباته، واستأجرهم آل خليفة لنقل أغراضهم من الزبارة للبحرين، وبعد أن وصلوا المحرق طلبوا منهم أن يقيموا في البحرين ويعيشوا فيها.
وقال آل خليفة لآل الشروقي «أقيموا في البحرين قد نحتاجكم مرة أخرى»، ففعلوا فأعطوهم قطعة أرض كبيرة في منطقة الحد حيث لا زالوا يعيشون في هذه المنطقة البحرية، وشارك أبناء آل الشروقي في مستقبل الأيام مع الآخرين في نهضة وتطور البحرين في كافة المجالات.
*ما هي قصة الشيخ عبدالله بن عيسى واحتفالات أهل المحرق بعودته من إنجلترا؟
القصة تعبر عن وفاء أهل المحرق وحبهم واعتزازهم بآل خليفة الكرام، وفي تاريخ 23 نوفمبر 1919 احتفلت منطقتي المحرق والمنامة احتفالاً كبيراً وتاريخياً استقبالاً للشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة عندما جاء من لندن عن طريق بيروت البصرة البحرين، بعد رحلة علاجية من مرض داهمه فترة من الزمن.
عُرف الشيخ عبدالله بن عيسى بمناكفته ومشاكسته للإنجليز، وعندما انتهى من الفترة العلاجية هناك عاد للبحرين ببارجة عسكرية إنجليزية اسمها «شُوّرّم»، وفي ذلك التاريخ أنا كنت وُلدت، لكن هذه الحادثة كانت مثار حديث لسنوات طويلة، لأن الاحتفال والفرحة بعودة الشيخ عبدالله من رحلة العلاج كان احتفالاً كبيراً وابتهجت المحرق والحد بهذه المناسبة.
*ما السر في حب أهل المحرق عموماً لآل خليفة؟
طبعاً آل خليفة عاشوا في المحرق من زمان طويل وتربطهم بالأهالي علاقات محبة واحترام وتقدير وصداقة بل علاقات دم ورحم، آل خليفة تزوجوا وصاهروا العديد من العائلات المحرقية العريقة، فهم عاشوا بين الناس ولم ينفصلوا عنهم، ومن هنا تأتي هذه العلاقات القوية الراسخة وسجل التاريخ البحريني الكثير من المواقف في ارتباط آل خليفة بأهالي المحرق والمنامة.
*ما شكل علاقاتك بالشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وأنت موظف كبير في الدولة؟
علاقتي بكل الشيوخ كانت جيدة للغاية، وبحكم العمل والمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقي، ربطتني بهم أواصر المحبة والتقدير ومن أشكال العلاقة مع سمو الأمير السابق الشيخ عيسى بن سلمان، كان كلفني مرة بمهمة علاج حاكم أم القوين الشيخ أحمد المعلا الذي كان يعاني من مرض، والسفر معه إلى الهند مع ابنيه عام 1973، وأعطاني سمو الأمير حوالة مالية مفتوحة للصرف على علاج الشيخ، وبالفعل وصلنا الهند ونزلنا في فندق كبير، وأعددنا كل لوازم الضيافة لزوار حاكم أم القوين ممن يريدون الاطمئنان والسلام عليه باعتباره حاكماً.
وهذه كانت لها أصولها وتقاليدها المرعية، وباشرنا العلاج، وبعد أن فرغنا من المهمة العلاجية بعث لنا سمو الأمير بطائرة خاصة أقلتنا من الهند إلى البحرين، وكشف الطبيب أن الشيخ يعاني من مرض السُكر وتم علاجه وعرف الكيفية التي يتعالج به بنفسه وكيفية أخذ الإبرة كلما شعر بزيادة السكر في دمه، وفي تلك الأيام لم يكن مرض السكري معروفاً لدى عامة الناس.
والغريب أن ابن حاكم أم القوين الشيخ راشد بن أحمد المُعلا بعد عامين من علاج والده، أرسل كتاباً لسمو الأمير يطلب فيها علاجه من المرض، وكانت البحرين بعد ذلك أنشأت المستشفيات المتطورة خلافاً لباقي دول الخليج فتم علاجه في البحرين، ورجع شاكراً ومقدراً للشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة كرمه وجوده.
في الحقيقة كان حكام الخليج ولازالوا يتعاونون مع بعضهم البعض كأسرة واحدة وحقيقةً البحرين كانت سبقت كل الدول الخليجية في التطور وتقديم الخدمات التي يحتاجها المواطنون، وكانت قبلة للجميع من الحُكام وأبناء الخليج عموماً.
وربطتني بالأمير السابق الشيخ عيسى بن سلمان علاقة محبة وتقدير، كنت مصدر ثقة بالنسبة لحُكام البحرين السابقين واللاحقين وكنت مستعداً لأداء أي مهام أكلف بها داخلياً أو خارجياً، ولم أتوان أبداً في خدمة بلدي البحرين.
*في الثلاثينات كنت يافعاً وعملت في البلديات فترة طويلة من الزمن وتنقلت حتى وصلت إلى منصب وكيل وزارة.. ما مهام البلديات في ذلك الزمن؟
البلديات في ذلك الوقت كانت هي الكل بالكل، وكنا ننظم البلد بكاملها الأسواق والمحال التجارية والمرافق الرسمية، ونتولى مهام النظافة وكان لدينا أسطول ضخم من السيارات والناقلات وكنت شخصياً مسؤولاً عن هذا الأمر، إضافة إلى التفتيش الصحي والتأكد من سلامة ونظافة المطاعم والمحال التجارية، ولم يكن هناك وجود لشركات النظافة وكان البحرينيون هم من يؤدون هذا العمل وعلى أكمل وجه ولم يكن هناك من يرى هذا العمل معيباً.
*ما أكثر المواقف في حياتك لا تنساها أبداً؟
كثيرة هي المواقف في حياتي لكن أكثرها أهمية كان تتويج حاكم البحرين الأسبق الشيخ حمد بن عيسى الكبير، كنت أعزف على الموسيقى في المدرسة في عمر الثامنة، وكان الاحتفال تاريخياً بمعنى الكلمة، تعلمنا العزف في الفرقة الموسيقية من ضابط في الجيش الإيراني كان هرب إلى البحرين اسمه هاشدان، ومن المواقف التاريخية التي لا أنساها أيضاً كنت أول من عزف السلام الأميري في البحرين عام 1935 انظر صحيفة الوطن - العدد 2568 الجمعة 21 ديسمبر 2012