انتهى الجزء الأول من المراجعة بامتداد علاقات عبدالرحمن الزياني إلى مؤسسات وهيئات إسلامية في ستينيات القرن الماضي، وتسلّمه رسالة من المكتب الدائم للمؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس الذي كان تحت السيطرة الأردنية في تلك الأيام، تضمنت دعوته إلى اجتماع الندوة العامة للمؤتمر في القدس، الذي عقد في 3 يناير/ كانون الثاني 1962.
قبل الدخول إلى استعراض الفصل الثاني من الكتاب، نشير إلى الأيام الأخيرة للشيخ الزياني، وقبلها عادته فتح منزله في شهر رمضان المبارك من كل عام.
في العام 1977 وبحسب الكتاب “بدأت تظهر على صحة عميد عائلة آل الزياني علامات التعب والإرهاق، وضاعف من تدهور صحته أنْ صادف حلول شهر رمضان المبارك في فصل الصيف من ذلك العام، فأصرّ أبناء الشيخ عبدالرحمن على والدهم أن يسافر إلى مصر كعادته لقضاء عطلة الصيف (...) وبعد أخذ وردٍّ معه تم إقناعه (...) وأول ما وصل سارع إلى إمام المسجد في الحيّ الذي كان ينزل به، وأجرى ترتيباً خاصاً لإقامة مائدة الرحمن في المسجد على نفقته؛ ولكن لم يمضِ من الشهر الكريم إلا بضعة أيام حتى أخذ الشيخ عبدالرحمن يشعر بألم في معدته (...) وقد تبيّن بعد عرض التقرير على أحد الأطباء المختصين في العاصمة البريطانية أن الشيخ عبدالرحمن بحاجة إلى عملية جراحية سريعة”.
في 23 يوليو/ تموز 1977، وصل الزياني إلى لندن، وفي سيارة الإسعاف التي كانت تنتظره في المطار إلى مستشفى خاص، تعرّض إلى أزمة حادّة، وتمت محاولات لإسعافه لكنه فارق الحياة عن عمر ناهز التاسعة والثمانين عاماً.
الفصول التالية من الكتاب ستتناول النقلة النوعية التي حدثت لشركة عبدالرحمن الزياني، من تجارة التجزئة والعمل في بضائع لا تجانس بينها ومتنوعة، من “النِعِل” والبصل والبطاطس والأحذية والقمصان، إلى تجارة السيارات والحصول على وكالتها الحصرية، لتمتد بعد ذلك إلى دول الخليج.
ابن «الدخْتَرَةْ»
ثالث الأبناء هو وبحسب الترتيب: راشد، أحمد، جاسم. يقول إن أحمد يكبره بعشرة أعوام. أنجب عبدالرحمن الزياني 4 بنات إضافة إلى البنين.
في “المَقِيض” فترة الصيف كان الناس، خصوصاً الميسورين بمقياس تلك الفترة من عشرينيات القرن الماضي كانوا ينتقلون إلى بيوت العريش لبرودتها النسبية. القضيبية كانت وقتها موضعاً للتصييف يأتيها مالكو تلك البيوت من مناطق شتى. كان البحر بخير وقتها أيضاً. وكما قيل له، فهو من مواليد صيف العام 1928.
وقيل له أيضاً، إن مولده بات متعسراً “على يد القابلة التي كان يعتمد عليها لتوليد النساء في بيوتهن، وأن هذا التعثر جعل العائلة تستنجد بمستشفى الإرسالية الأميركية، وهو المستشفى الوحيد في البحرين في ذلك الوقت، والذي قام بإرسال ممرضة هندية إلى مسكننا لمساعدة والدتي على الولادة”، فلا الولادة تمّت على يد قابلة كما هو معتاد، ولا الاستعانة بممرضة المستشفى وإتمامها للولادة، كان أمراً معتاداً هو الآخر. كلتا الحالتين/ الاستدعائين أثارتا استغراب وتعجّب نساء الحي “ما جعلهن يطلقن عليَّ (ابن الدخْترَة) نسبة إلى الممرضة التي أتمّت الولادة”. ففي ذلك الوقت لم يكن الناس يفرّقون بين الممرضة والطبيبة التي يقال لها باللهجة البحرينية (دَخْتَرة)”.
أول المهمات: تحصيل الإيجارات
في التفاصيل، كان جاسم الزياني، مطلع القرن الماضي، تلميذاً في المدرسة. كان شقيقه الأكبر راشد في الفترة نفسها، ومع أول البعثات الدراسية خارج البحرين، يتلقى تعليمه بالجامعة الأميركية في بيروت، فيما أحمد خبير اللؤلؤ يعمل في الوساطة هناك على بعد آلاف الأميال في الهند.
كان جاسم ملازماً لوالده يتعهده ويلبي طلباته، وكان والده حريصاً أكثر على أن يكون قريباً منه في العمل؛ إذ كان في بداياته.
في تلك الفترة المبكرة، أوكل إليه والده أمر تحصيل إيجارات الدكاكين. كان الشائع وقتها “المراوغة” والتسويف من قبل المستأجرين. ركود السوق يوفر لهم الرد: “لم نبع شيئاً ولم نحقق أي دخْل، اصبر علينا يمكن تفرج”.
يأتيه الرد من والده: لا بأس يا بني، واصلْ زيارتهم، وذكّرهم بضرورة دفع الإيجارات المتأخرة”.
الأقرع والدفع بالآنة
كانت معرفة ظروف الناس كافية لأن يتحلى بعض كبار التجار بصبر وتفهّم “الوالد الشيخ عبدالرحمن كان يعرف الظروف التي كنا نعيشها في تلك الفترة، وهي ظروف الحرب العالمية الثانية، وقتها كان الشح هو السائد، فالباعة وأصحاب الدكاكين ليس لديهم ما يبيعونه بعد أن توقف الاستيراد تقريباً نتيجة امتناع الدول المصدِّرة عن التصدير”. هناك بين المستأجرين من كان لا يتخلف وفي الموعد، على رغم ظروف السوق وأوضاع الناس: حسن الأقرع، لكن، كانت له طريقته الخاصة التي لا تخلو من لؤم. لؤم برىء. مع تاريخ استحقاق إيجار محلات ثلاثة، يقوم بالدفع بالوحدات الأصغر من الروبية وقتها (الآنة والآردي) “كان يعطيني كيساً أو صرّة بالآنات والآرديات، وأنا آخذها إلى البيت وأعدّها ثم أسلّمها لوالدي الذي يحتجّ بدوره على إيجارات الخردة هذه دون جدوى”.
مُخلّص ...و«شْوَيَة نِعِلْ»
كان لشقيقه أحمد الذي اتخذ من الهند مقراً له ممارساً الوساطة في بيع اللؤلؤ، دور في إرسال بضائع متنوعة مع الركاب القادمين إلى البحرين. تبدا مهمة جاسم الزياني بوصول الباخرة من بومبي، قبلها يكون قد أرسل برقية. لا تنتهي العملية بوصول البضاعة؛ بل ربما من هنا تبدأ يقول جاسم الزياني: “مشكلتي دائماً تبدأ عند مفتش الجمارك في فرْضة المنامة، وهو هندي اسمه شودري كما أتذكّر، فقد كان هذا المفتش مشهوراً بالشدّة وصارماً في عمله، فلا صندوق يخرج من الباخرة إلا ويأمر بفتحه وتفتيشه، وأتذكّر مرة أن الصندوق الذي وصلنا كان به حوالي 25 زوج نعل، فلما سأل المفتش: ماذا بالصندوق؟
- شوية نعل عبارة عن هدايا لأفراد العائلة.
- هذا أكثر من عشرين نعلاً، لا يمكن أن تكون كل هذه النعل هدايا - هذا تجارة وعليكم أن تدفعوا عليها رسوماً.
الدراسة في الهند
الوسط - جعفر الجمري
مع بداية ازدهار التجارة وانتعاش السوق، وجد الأخ الشقيق راشد في ذلك فرصة كي يترك الوظيفة الحكومية ويتفرغ للتجارة مع والده الشيخ عبدالرحمن، وضمن ترتيب الأوضاع تم قرار سفر جاسم إلى الهند لتلقي التعليم. كانت اللغة الإنجليزية والمحاسبة المادتين الرئيستين. أقام هناك عامين وبوجود أخيه أحمد، كانت الأمور أكثر يسراً، أتيحت له أوقات ليقترب من عالم الوساطة في اللؤلؤ. بعد العودة ولفترة بسيطة قرر والده إرساله إلى الهند مرة ثانية. الطريق إليها يتم عن طريق الباخرة وعليها أن تمر على كراتشي أولاً، حيث قُدّر له هناك أن يتعرف على وجوه المال والأعمال والأعيان في بلدانهم، وخصوصاً التاجر المعروف محمد المرزوق.
صفقة الدكّان
بعد العودة من الهند في المرة الثانية، عمد الأب عبدالرحمن إلى إبرام صفقة مع صاحب دكان هندي (رامو دارداس) كان يصفي أعماله لمغادرة البحرين، بشراء محله. يقع الدكان في شارع باب البحرين، وبلغت قيمة الصفقة وقتها 4000 روبية. كانت الصفقة بداية لدخول جاسم الزياني عالم التجارة بشكلها المباشر، إذ سيترك له والده حرية التصرف والتعامل مع الزبائن والوقوف مباشرة على التفاصيل. لم يتدخل الأب في أي من تلك التفاصيل. يرجع ذلك بحسب جاسم في الكتاب إلى أن “مكانة تاجر اللؤلؤ المعروف لا تسمح له بأن يمارس عمل تاجر التجزئة وبيع القمصان والأحذية وغيرها. ولذا فما أن أبرم الصفقة مع رامو دارداس حتى أوكل مسئولية إدارة المحل التجاري وأعطاني الصلاحيات كافة”.
بدأت تحركات جاسم للتعامل مع التجار الذين سبقوه في السوق. المحل كبير ويكاد يكون شبه فارغ لندرة البضاعة فيه، بدأت عمليات البيع والشراء التي لم تخْل من فطنة وذكاء، وتطلعاً إلى تثبيت سمعة في السوق؛ إذ قام في إحدى العمليات تلك بشراء بضائع من تاجر هندي (كرمستجي)، ليقوم ببيعها بالسعر نفسه، مثل ذلك الصيت أتاح له انتشاراً في السوق، ومعرفة الناس برخص بضاعته؛ ما أغضب التاجر الهندي الذي شكاه إلى والده “هذه الأخبار وصلت إلى كرمستجي فجاء محلنا غاضباً، ودخل على والدي (...) وقال له:
- شيخ عبدالرحمن (...) نحن نبيع عليكم معجون كولينوس بتسع آنات وأنتم تبيعونه أيضاً بتسع آنات، وتبيعون أمواس ناست بخمس آنات، وهو نفس السعر الذي نبيعه لكم (...) أنتم تخربون السوق علينا، وعليكم أن تتوقفوا عن ذلك”.
وكالات السيارات
صار اسم عبدالرحمن الزياني علامة كبيرة يوم أن تم رفع اليافطة على المحل الواقع بباب البحرين. تنوعت وتعددت البضائع، فكان لابد من الانتقال إلى مستوى أكبر وأشمل بالاتجار بسلع تفتقدها البلاد ودول المنطقة.
زيارة الهند أوحت لجاسم الزياني مثل تلك النقلة، حين وقعت عينه على سيارة من طراز أوستن. تمت مراسلة الشركة للحصول على الوكالة، وحين جاءت الموافقة قام الزياني بطلب ثلاث سيارات من أحجام: أوستن 8 و 10 و 12، الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.
يقود إعلان لسيارة لاند روفر في إحدى الصحف الإنجليزية، وهي ذات دفع رباعي، جاسم الزياني أيضاً لمراسلة الشركة، لتقوم بإرسال سيارة واحدة.
بعد وصول السيارة قام الزياني بالاتصال بقصر الحاكم وكان وقتها المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، يسرد تفاصيل ما حدث بشكل مطول، لكنه في نهاية المطاف يوفق في بيع السيارة على القصر، بعد أن تم من قبل رفض شراء إحدى سيارات أوستن. ولإعجاب الحاكم بالسيارة تم ترتيب مأدبة عشاء في القصر احتفاء بالمناسبة، وكانت إيذاناً بافتخار الأب بابنه ونجاحه بتحقيق مثل تلك الصفقة. بعد ذلك تعددت الوكالات الحصرية التي حصلت عليها شركة عبدالرحمن الزياني ومن بينها، أوستن القلّاب، وميتسوبيشي، وكرايزلر، وقتها كانت الوكالة لأربع سيارات بإضافة اللاندروفر.
وكلاء الزياني في الخليج
في العام 1960، وبعد استقرار تجارة السيارات التي كانت تمثل عصب الأعمال التجارية لشركة عبدالرحمن الزياني تم إرسال الابن جاسم إلى قطر، لتوكيل شركة توزيع لسيارات اللاندروفر، التي كانت وقتها تناسب طبيعة دول الخليج التي لم تعرف في تلك الفترة رصْف شوارعها؛ إذ كانت السيارة عملية لتلك البيئة وزحف الكثبان الرميلة على الحواضر في تلك الدول.
في دولة قطر تم اختيار التاجر المعروف خالد محمد المانع ليكون الموزع لتلك السيارات.
بعد إنجاز تلك المهمة توجه جاسم الزياني إلى دبي، والتقى التاجرين المعروفين صالح العصيمي وجاسم المدفع، وكانا شريكين في التجارة؛ إذ تم توقيع اتفاق وكالة التوزيع معهما للسيارة نفسها، ليستمر تمدد الشركة وصولاً إلى عُمان، ليتولى الوجيه جعفر عبدالرحيم الدرويش توزيع اللاندروفر. وإلى السعودية لافتتاح فرع للشركة هناك لتوزيع اللاندروفر والأوستن، إضافة إلى المكائن والآلات، وضم فرع السعودية تنوعاً في البضائع وصولاً إلى البصل والبطاطس!
كانت المحطة التالية هي الكويت، في الفترة التي بدأت فيها النهضة التنموية والازدهار يتضح في كثير من مرافق الحياة والخدمات. مكث جاسم الزياني سنوات هناك، ليصبح واحداً من وجوه المال والأعمال. كانت رسالة التوصية التي حملها من سمو الشيخ سلمان بن حمد إلى سمو الشيخ عبدالله السالم الصباح، لمساعدته ومنحه ترخيصاً لتأسيس فرع تجاري لشركة عبدالرحمن الزياني في الكويت، سهّلت مهمته؛ حيث تم منح الترخيص للشركة.
كانت المشكلة في المقر؛ ما دفع إلى الاتفاق مع أحد كبار التجّار هناك وهو عبدالله العلي العبدالوهاب، ليكون وكيلاً للشركة لبيع السيارات وغيرها من البضائع. مع ارتفاع وتيرة الازدهار وازدياد الطلب على السيارات، وجد وكيل الزياني “من الأفضل له والأكثر مكسباً أن تصبح الوكالة باسمه وكل الدخْل له، وليس لشركة عبدالرحمن الزياني وأولاده، وما لبثت الفكرة أن قادته إلى الاتصال مباشرة بشركة أوستن للسيارات ويفاوضهم على أن تقوم بسحب الوكالة من الزياني ومنحها له، خاصة وأن شركة الزياني لا تلك محلاً تجارياً في الكويت”. تم التغلب على تلك المشكلة بعد تفاصيل يوردها جاسم الزياني في الكتاب بالتوصل إلى اتفاق يدفع بموجبه الزياني 150 ألف روبية للموزّع في الكويت.
في الحلقة الأخيرة من الاستعراض، ستتم تكملة الفصل الرابع الذي يتناول عدداً من المشكلات التي واجهت فروع وكالة السيارات في عدد من دول الخليج وما تبقى منها، فيما سيتم في الفصول الثلاثة، الخامس والسادس والسابع، التطرق إلى خسران أو إغلاق معظم الفروع باستثناء الكويت، وفي الفصل السادس، يتم استعراض مرحلة التراجع والانفصال، ويقف الفصل السابع عند انهيار الشركة العائلية
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالوهاب الزياني ونجله جاسم الزياني
المصدر
http://www.alwasatnews.com/4415/news/read/926976/1.html