الاثنين، 26 أبريل 2010

قضاة البحرين يسألون الأزهر عن ثبوت هلال رمضان بالتلغراف!!

حاول الإنسان تطوير قدراته على التحدث إلى غيره من الأفراد والمجتمعات عبر عشرات الأساليب والطرق فمن ذلك: النار ورسائلها الدخانية، وقرع الطبول، والأبواق، والحمام الزاجل، وصولا إلى أبراج المهندس الفرنسي Claude Chappe 1790 التي كانت تنقل الرسائل الضوئية عشرات الكيلومترات عبر عُمال يتلقون الإشارة في كل برج ويعيدون نقلها كما هي.وبعد ذلك ظهر التلغراف الذي سجّل انتشاراً مع القرن التاسع عشر حين تم الإعلان عن اكتشاف واحد في مكانين، الأول في بريطانيا مع تشارلز ويت ستون ووليم كوك، والثاني في أميركا مع صموئيل مورس المعروف بتصميمه إشارات التلغراف (النقطة والشَرطة).
* * *
كان التلغراف من بين أوائل التطبيقات الصناعية للكهرباء. فقد كانت تتمثل ماكينات التلغراف الأولى في شكل دائرة كهربية هائلة تغذيها بطارية بسيطة. ويتم فتح الدائرة وغلقها عن طريق مفتاح. عندما تكون الدائرة مغلقة يمر التيار وينتشر في الأسلاك، وفي الطرف الآخر من السلك هناك نظام متابعة يدل القائم على الجهاز على مرور التيار ، ويعد القائم بهذا الاختراع هو "صاموئيل مورس" الذي ألف أيضا أبجدية الشَرطة والنقطة الشهيرة، والتي سميت باسمه.
ومورس (1791-1872)، الذي تعرفه العامة بأنه «مخترع التلغراف»، كان أستاذاَ للتصميم الفني في جامعة نيويورك، وهو الذي أدرك أنه يمكن إرسال إشارات عبر الأسلاك، ومن ثم استخدم نبضات لدفع وحدة كهرومغناطيسي إلى تحريك مؤشر بحيث يرسم رموزاً على لفافة ورقية، وبذلك ابتكر ما بات يعرف بـ«إشارات مورس».
وفي العام التالي طوّر مورس الجهاز ليطبع على اللفافة الورقية نقاطاً وشرطاَ (جمع شَرطة)، وأزاح الستار عن الجهاز المطور في عرض أمام الجمهور عام 1838م، غير أنه لفتور رد الفعل انتظر خمس سنوات قبل أن يقر الكونغرس الأميركي دعمه بتمويل بلغ 30 ألف دولار خصص لمد خط تلغراف بين العاصمة الأميركية ومدينة بلتيمور على مسافة نحو 60 كيلومتراً.
واستخدم التلغراف بكثافة خلال الحرب الأهلية الأميركية، ثم بلغت ذروة الإقبال عليه في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي عندما تم استخدام كلمة «توقف» stop بدل النقطة بسبب قلة كلفتها. وواضح أن تطور وسائل الاتصال الآن، وعلى رأسها الإنترنت والرسائل الفورية، كان وراء قرار وقف خدمة التلغراف.
وصول التلغراف إلى الدول العربية:
وصول التلغراف إلى اليمن:
يذكر المؤرخ إسماعيل الوشلي في كتابه "نشر الثناء الحسن" (4/12) دخول التلغراف إلى اليمن يقول:"وفي شهر ذي القعدة من عام اثنين وتسعين بعد المائتين (1292هـ) (1875م) وصل نوري أفندي بالتلغراف إلى مدينة الزيدية ، وهو شيء عجيب وأمر غريب اخترع في هذا الزمان المتأخر ، وبه انضبطت المملكة ، واتصلت الأخبار في أسرع مدة من البلدان البعيدة، وهي آلة اخترعوها تسمى بالمكينة ، ووضعوا في كل بلد من البلدان الكبار في جميع ممالك الدولة مكينة منها، ومدوا خيطاً يشبه الحديد وليس منه ، متصلاً بجميع البلدان التي فيها الماكينات مرتفعاً في الهواء على أعواد بعضها من خشب وبعضها من حديد ، ورأس الخيط متصل بالمكينة في كل بلدة وله طرف بين الماء في بئر ونحوها، ولا يعمل إلا إذا كان له طرف بين الماء، فمن كانت له حاجة إلى أي بلد ولو بعدت المسافة كما بين صنعاء واسطنبول مثلاً وغيرها من البلدان الشاسعة والقريبة فيكتب حاجته في ورقة ويسلمها إلى صاحب المكينة فيحرك المكينة بنقرات ما يسمع غيرها، وفي أسرع وقت يجيء الجواب بالإفادة التامة من غير زيادة ولا نقصان.
وقد أخبرني كثير ممن يحكم هذا الشيء أنه إذا حركت الآلة في بلد يخبر إلى بلد آخر أن تلك الآلة التي في البلد الآخر تتحرك في ذلك الوقت من غير فرق ولو بعدت المسافة بينهما، وهذا أمر يشبه البرق في السرعة، ولعل بينهما مناسبة بأشياء الله أعلم بحقيقتها بدليل أنه إذا وقع الغيم والمطر خرجوا مسرعين من المحل التي فيه تلك الآلة وأغلقوا أبواب المحل وكواته خوفاً من تجاذب البرق والآلة ، وما ذاك إلا لكون بينهما مناسبة . من العجائب أنهم يفهمون الكلام من النقرات، وقد كان في المدة السابقة يوم حدوثه في اليمن تركب ورقة طويلة عرضها قدر بنانة مطوية في رأس الآلة فتنتفض تلك الورقة عند مجيء الخبر ، وفي الآلة شيء يشبه الإبرة ينقش فيها ألفات (أي خطوط) قصار وطوال ونقط ، إصطلاح يعرفونه بينهم ، فيعرف من تلك النقوش حروفاً يجمعها ويكتبها فإذا هي عين الخبر الذي دفعه صاحبه إلى صاحب التلغراف ، وقد اختبرت صحته وتحققت وصارت في حكم اليقين. ثم إنهم تفننوا وأحكموا الأمر وتركوا تلك الأوراق وفهموا الخطاب من تلك النقرات فقط فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم!!
وقد امتدح سيدي الخال العلامة السيد محمد بن عبد الله الزواك نوري أفندي لما وصل بالمكينة إلى الزيدية بهذه القصيدة مؤرخاً وصوله بها في الشطر الأخير من البيت الأخير:
أهلا وسهلاً بالأغر الكريم
الألمعي اللوذعي الفهيم
فاخرت المركز إذ أصبحت
والسلك بالأخبار فيهم زعيم
سناء (محي الدين نوري) بها
محي ظلام الحادثات البهيم
فاق على أقرانه بالذكا
وحسن طبع فيه لطف النسيم
ومنطق جزل بآدابه
يشنف السمع بدر نظيم
مبرز ما أعيا الورى دركه
بجودة الفكر القوي السليم
في أنجد الأرض وأغوارها
على الأساطين ذوات الشكيم
يوحي معاني القول في أحرف
منه تلقها فؤاد الفهيم
فاسمع ليخبر عما جرى
في نقرات الألفباء وميم
يستودع السر فلم يفشه
والحفظ للأسرار شأن الحليم
قبل ارتداد الطرف يأتيك ما
تطلبه فأعجب الأمر عظيم
قد صدحت من فوق أعواده
صوادح المدح بصوت رخيم
وبالدعاء قد لهجت ألسن
بواسع الجود السميع العليم
تدعو لمولانا مليك الورى
خليفة الله الأبر الرحيم
سلطاننا (عبد العزيز) الذي
حمى حمى الدين سيف صريم
واختم النظم بتأريخه
يترجم السلك بنصر قويم
363+ 141+ 343 +154 = 1302هـ
انتهت .
وقال أيضاً هذين البيتين على لسان التلغراف لما انفصل "نوري أفندي" من تلغراف الحديدة وتوجه إلى بلاد عسير وفي ذلك تورية لطيفة:
تلغراف الحديدة قال إني
لقد أوجست من بعد المدير
هلموا وانظروا حالي فإني
تبدلت الظلام عقيب (نوري)
ومما يبطل عمل التلغراف انقطاع ذلك الخيط الممدود أو سقوطه واتصاله بالأرض ، ويعرف ذلك في البعد بسكون آلة موضوعة إلى جانب المكينة تتحرك دائماً فإذا انقطع أو سقط سكن ذلك المتحرك فحينئذ يخرج من يصلحه فإذا أصلحه بوصل الخيط أو رفعه عن التراب عادت العملية .
ومما يقال بأن الشيخ محي الدين بن العربي قدس الله سره كشف له عنه فأخبر بمجيئه فيما بعد ، فقال: إذا دق الحديد في الحديد جاء الخبر من بعيد والله أعلم بحقيقة الأمور".
وصول التلغراف إلى المغرب:
أما المغرب فأول مغربي شاهد آلة التلغراف وأبدى اندهاشه تجاهها هو السفير إدريس العمراوي الذي أرسل في بعثة إلى باريس سنة 1860م في عهد نابليون الثالث، ودون مشاهداته في مكتوبه "تحفة الملك العزيز بمملكة باريز" مظهرا انبهاره بالمخترعات التقنية الأوروبية كالقطار والباخرة والتلغراف (أخبار السلك) والمطبعة، واصفا في نفس الوقت مشاهداته في فرنسا كالحدائق (جنان النباتات والوحوش) ودار السلاح، ودار ضرب العملة، ودار الكتب، والقصر، والصحافة وغيرها، مبديا إعجابه بروح العمل لدى الفرنسيين وترويضهم لكل مظاهر الطبيعة.
وبعد وصف مبسط لكيفية عمل التلغراف يذكر" أن رئيس ذلك المحل أخبرنا أنهم في أربع دقائق يكتسبون أخبار كثير من الأقاليم من بر العجم، واسطنبول، والهند، والشينة، ومصر، وتونس، والجزائر، والماركان، والإنجليز وغير ذلك حتى كأنهم حاضرون فيها".
ويعبر عن إنذهاله تجاه قدرات هذه الآلة قائلا:"وهذه الآلة مما يذهل ذهن العاقل، ويستريب فيه السامع والناقل، وكلما أمعنت النظر فيها، لم أجد عبارة تشتمل على حقيقتها وتستوفيها، على أن كثيرا ممن ينظر إليها لا يعرف كيفية الدلالة عليها، بل ولا يحسبها إلا من طريق السحريات، ويكذب كلام ناعتها ويعده من الاستهزاء والسخريات، وقد كان معنا بعض المغفلين. فلما رآه، استعظم باطن أمره ومرآه، سألناه عما فهم منه واستخبرناه بأي عبارة يعبر عنه ،فقال إنه مثل الذين يخطون في الرمل ويضربون الفأل في قريعة الأنبياء، ويعبرون عما في قلبك من الأنباء،كلا بل هو من الأمور المذهلة والأشياء المشكلة والأدواء المعضلة، قد قربوا بها البعيد ، وهونوا الخطب الشديد".
وعندما ظهر التلغراف في المغرب أخذ الفقهاء يناقشون مدى جواز العمل به في الشعائر الدينية، هل يجوز الاعتماد عليه أم لا؟ ففي حوالي سنة 1914م كتب الفقيه محمد بن عبد السلام الطاهري الشبيهي رسالة بعنوان "كمال الاعتراف بالعمل بالتلغراف" يتطرق فيها" للسؤال" عن خبر التلغراف: هل يعمل به في الأمور الدينية أم لا؟
فبعد تعريفه للتلغراف ومعنى الخبر ومناقشة فقهية لهذه القضايا يناقش مسألة ورود خبر بالتلغراف من الرباط إلى مكناس ليلة 29 رمضان 1332هـ مؤداه ثبوت رؤية هلال شوال في تلك الليلة وهو في نظره خبر "لا شبهة فيه ، لأن الآلة التلغرافية لا يمكن فيها عادة تحريف ما تحمله من الأخبار ولا تبديله أو تغييره كما يعرف ذلك من يباشر ".
وقد ناقش نفس المسألة مُثقف معروف هو الشيخ محمد الحجوي الذي كتب بدوره سنة 1914م رسالة بعنوان "إرشاد الخلق إلى الاعتماد في ثبوت الهلال على خبر البرق" متسائلا عن جواز الإفطار اعتمادا على خبر منقول بواسطة التلغراف أو التلفون.
دخول التلغراف إلى الخليج:
أما دخول التلغراف إلى الخليج فقد كان متأخرا ً ومع كونه متأخراً فالإشارات عنه قليلة جداً فنجد الشاعر الكويتي عبد الله محمد الفرج المتوفى سنة 1319هـ يذكر في "ديوانه" ص91 من قصيدة عاطفية يقول في أحد أبياتها:
شمول التهاني منك في ساعة الرضا
تشادي حلوم الليل أو (تيل الاغرافِ)
ويعني بأن رضا محبوبته أمر عسير وغاية لا تدرك وأمر عجيب كحلم الليالي أو كالتلغراف فيضرب بذلك مثلاً بالتلغراف لكونه من الأمور العجيبه في ذلك الوقت.
دخول التلغراف إلى البحرين:
أما دخول التلغراف إلى البحرين فقد أنشئ في البحرين خط ربط لاسلكي، وفي 7 يونيو 1916م تم بث أول رسالة ما بين البحرين ونظام البرق الدولي في بوشهر على الساحل الفارسي والتي كانت مقر المقيمية السياسية البريطانية في الخليج العربي.
وقد ساعد إنشاء خط الربط اللاسلكي في البحرين في هذا العام على التخفيف من وطأة مشكلة انقطاع وسائل الاتصال ما بين أوروبا والشرق الأقصى بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية (1914م – 1918م) حيث كان الخطان البريان اللذان تعتمد عليهما بريطانيا في حركتها البرقية واللاسلكية يمران عبر ألمانيا (عدو بريطانيا في تلك الحرب) وروسيا كذا ورد في كتاب "أخبار القرن العشرين" للسيد حسين إسماعيل ص25.
ثبوت هلال رمضان بالتلغراف:
وكما استشكل علماء المغرب العمل بالتلغراف، استشكله علماء البحرين وأرسلوا إلى الأزهر الشريف يسألونه عن ثبوت هلال رمضان بالتلغراف وقد أجابهم فضيلة الشيخ يوسف الدجوي بثبوت هلال رمضان بالتلغراف وهذا نص السؤال والجواب.
جاء في ((مجلة نور الإسلام)) قسم الأسئلة والفتاوى ص639 سؤال من قضاة البحرين جاء فيه ما نصه:
ثبوت شهر رمضان بواسطة التلغراف ونحوه
حضرة الأجل الفاضل العالم العلامة الشيخ يوسف الدجوي المحترم ، حفظه الله تعالى علاه ، ولطف به وتولاه ، آمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وبعد..
فإنا لكم من المحبين، ولقد اطلعنا على بعض مقالات لكم مدرجة في "مجلة نور الإسلام" ، فسررنا بها غاية السرور، سائلين المولى أن يمتع الإسلام بحياتكم.
هذا وإنا نحب أخذ رأيكم في مسألة العمل بالبرقيات التي ترد لنا عن ثبوت الأهلة بما تقتضيه القواعد الشرعية، لا سيما على مذهب الإمامين الجليلين: مالك والشافعي رضي الله عنهما، بما هو مشروح في السؤال، وهو هذا:
ما قولكم دام فضلكم فيما إذا وردت برقية من الحجاز أو الشام مثلاً إلى البحرين برؤية هلال شهر رمضان أو شوال، مع ما هو معلوم من مباشر عمل البرقية غالباً، وتغاير حكومة المحلين المذكورين، فهل يعمل بالبرقية المذكورة في مسألة الإمساك والإفطار أم لا؟
وإذا قلتم بالعمل بها فما وجهه؟
وإن قلتم بعدمه فما السبب في ذلك؟ بينوا لنا ما يلزم في ذلك بالتحقيق ، ولكم من الله الأجر ومنا الشكر، والسلام عليكم ورحمة الله.
من محبيكم قضاة الشرع بالبحرين
عبد اللطيف بن محمود
عبد اللطيف بن محمد
الجواب:
قد نص في مذهب مالك رضي الله عنه على أنه إذا ثبت شهر الصوم لدى حاكم وإن لم يحكم به ، ونقل ذلك الثبوت إلى جهة أخرى بواسطة رجلين عدلين أو جماعة كثيرة يفيد خبرهم العلم بمضمونه أو الظن القريب منه ، أو بواسطة رجل عدل، فإن الشهر يثبت في حق أهل الجهة المنقول إليها ، ويجب عليهم الصوم بناء على ذلك الخبر فإن المسألة من باب الرواية التي يكفي فيها خبر العدل الواحد ، وإن كان ثبوت الشهر عند مالك لابد في فيه من عدلين رأيا الهلال أو جماعة مستفيضة.
ولا عبرة باختلاف المطالع عنده ، فيجب الصوم سواء اختلف مطلع الهلال أو جماعة مستفيضة. ولا عبرة باختلاف المطالع عنده ، فيجب الصوم سواء اختلف مطلع الهلال في الجهتين المنقول منها وإليها أم اتحد، وسواء أتقاربت الجهتان أم بعدتا، إلا إذا كان البعد بينهما شاسعاً جداً فلا يثبت الحكم بالنسبة لأهل إحدى الجهتين بثبوت الشهر في الجهة الأخرى. ومثل ذلك البعد الشاسع بما بين خراسان بالمشرق والأندلس بالمغرب.
ونص المالكية أيضاً على أنه يعتمد في الصوم والفطر على القرائن الدالة عادة على ثبوت شهر رمضان أو شوال كصوت المدافع ، وإضاءة المآذن ، كما يعتمد على صوت المؤذن في معرفة وقت الصلاة ، لجرى العادة بتوجيه الإنكار الشديد إليه من جماعة المسلمين لو كذب .
ونص مولانا الشيخ عليش في فتاويه على أنه يعمل بالإشارات التلغرافية في الصوم ، لأن التلغراف أداة معتبرة للتخاطب من المسافات البعيدة والقريبة بين ملوك العالم وحكامهم والناس أجمعين ، وعلى أن من أفطر في رمضان بعد وصول خبر الصوم له بواسطة السلك متأولاً بأن هذا الخبر مبناه أقوال المنجمين التي لا تعتبر في ثبوت الشهر شرعاً ، فإنه تجب عليه الكفارة (فضلاً عن القضاء) لأنه متأول تأويلاً بعيداً لجهله وسوء ظنه ، فلا عبرة بتأويله (وألفت نظرك لجعله ذلك جهلاً وسوء ظن).
الخلاصة:
والخلاصة أن مدار وجوب الصوم في رمضان ، والفطر أول شوال ، على الظن الغالب بثبوت شهر الصوم أو الفطر. وحيث إن الغالب في الأخبار التي ترسل بواسطة التليفونات أو التلغرافات السلكية أو اللاسلكية إنما هو الصدق في المسائل الدينية كصوم رمضان ، فنرى أنه يجب صوم رمضان والفطر أول شوال بناء على الإخبار بهما من هذا الطريق، إلا إذا تباعدت الجهتان جداً كما تقدم، وإن كان عامل التليفون والتلغراف قد يكون غير عدل شرعاً ، أو اختلفت حكومة الجهتين المنقول منها وإليها فذلك لا يمنع غلبة الظن التي هي مناط العمل بالأحكام الشرعية العملية ، كأحكام الصوم والصلاة وما إليهما من المعاملات ، فإن الشارع جلت حكمته لم يكلفنا في العمل بالقطع واليقين دفعاً للحرج (وما جعل عليكم في الدين من حرج).
ومعلوم أن الأحكام العملية يكفي فيها الظن ، وأنه لا يجب فيها اليقين .وقد قالوا : إن غلبة الظن في دخول وقت الصلاة كافية ، وقالوا : وإن المجتهد يجب عليه العمل بما أداه إليه ظنه، وإن المسائل القطعية ليست من مباحث الفقه . ولا يعقل في الملة الحنيفية السمحة التي تقول : (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وتقول : (إن هذا الدين يسر) إلا هذا. ولو قلنا: إن أخبار البرقيات السلكية واللاسلكية لا يعول عليها بناء على هذه الاحتمالات لوصمنا الدين الإسلامي البعيد النظر الواسع الحكمة بالجمود الذي يبرأ منه وينعاه على أهله ، ولصيرناه مضغة في أفواه أعداء الدين، وسخرية بين الزنادقة والملحدين . ولو فرضنا أن عامل التليفون غير عدل أو غير مسلم لم يضر ذلك شيئاً ، لأن الخبر ليس منه ، وإنما هو مأمور بتوصيله إلى الجهة المعينة، فهو كالبريد الذي يحمل الرسائل. وعلى كل حال فليس هناك معنى لأن يغلب على ظن الإنسان ثبوت رمضان بأي وسيلة من الوسائل التي تحتف بها القرائن الموجبة لغلبة الظن ثم يصبح مفطراً بعد ذلك. ولاشك أنه قد وجدت وسائل كثيرة في هذا العصر لم تكن معروفة في العصور الأولى.والمدار في كل ذلك على حصول المقصود الذي هو الظن الغالب ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً (وإلا لم تكن الوسيلة وسيلة بل كانت مقصداً ، وقد فرضناها وسيلة) والشارع لم ينط الأحكام إلا بحصول الظن الغالب ، فهذا هو اللائق بنظر الإسلام الواسع ، حتى يكون دين العصور كلها والأمم كلها، وتكون حجته قائمة على المخالفين في كل زمان ومكان .نعم : بعض الأحكام العملية لا يثبت عند الاحتمال وقيام الشبهة ، كوجوب القصاص في جناية النفس ، ولكن ذلك لدليل خاص كقوله صلى الله عليه وسلم: ((ادرءوا الحدود بالشبهات)) وذلك لحظر القصاص . هذا ما نقول به ولا نفتي بشيء سواه.
نسأل الله أن يعصمنا من الزلل ، ويمنعنا من الخطل ، وأن يلهمنا الرشد في العلم والعمل ، ولا يكلنا لأنفسنا طرفة عين بمنه وكرمه.
يوسف الدجوي
عضو هيئة كبار العلماء
المصادر والمراجع:
1-مجلة نور الإسلام.
2-مجموعة الوثائق ، خاصة بالكاتب.
3-مذكرات بلجريف ، الشيخة مي بنت محمد آل خليفة.
4-نشر الثناء الحسن، الوشلي.
5-أخبار البحرين في القرن العشرين ، السيد حسين إسماعيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القول الجلي في تحقيق مولد سمو الشيخ عيسى بن علي بقلم الباحث بشار الحادي

القول الجلي في تحقيق مولد سمو الشيخ عيسى بن علي وهو سمو الشيخ عيسى بن علي  بن خليفة آل خليفة حاكم البحرين طيب الله ثراه ...