لما كان الوقف الإسلامي يمثل أبرز قنوات تحقيق الاستدامة في بناء منظومة خدمة المجتمع، فإن الاهتمام بهذا النطاق يقتضي أن يكون تراكمياً بحيث تتحقق من خلال ذلك مواكبة ما بين تطور العمل الخيري من خلال نظام الوقف الإسلامي، وذلك بما من شأنه أن يلبي حركة التطور الاجتماعي ويوسع نطاقاتها في المجتمع، ومما يثلج الصدر أن البحرين – وفق ما تسجله وثائقها الوقفية – تزخر بالعديد من الصكوك الوقفية منذ قرابة العشرة عقود، إلا أن الأموال الموقوفة بموجبها أصبحت في طي النسيان ولم يعد لغالبها وجود على أرض الواقع، فمن المسئول عن ذلك؟
وحتى نقرب الصورة بشكل أكبر، فإن هناك عدداً من هذه الصكوك تؤكد وجود أعيان موقوفة اندثرت ولم يعد لها وجود، وهي عبارة عن مدارس لتدريس المذهب المالكي أوقفها وجهاء ذلك العصر على طلبة العلم، ونحن في خضم استعراضنا لأحداث الماضي نتوجه باستفسار إلى إدارة الأوقاف السنية قبل أن نتهمها جزافاً بتضييع مثل هذه الكنوز التاريخية الدفينة... في ذمة من ضياع هذه الأوقاف بهذه الصورة والمنطق يفترض مسؤوليتكم عنها وعن إدارة ريعها وإحياء هذا التراث العريق لأهل البحرين؟
ومن الذي حول مدرسة محمد بن حسن آل خاطر ومدرسة حسين بن سلمان بن مطر إلى سكن عمال؟
وكيف تحولت مدرسة محمد بن راشد بن هندي المناعي إلى “خرابة”؟
وكيف تحولت مدرسة علي بن إبراهيم الزياني ومدرسة سعيدة بنت بشر آل جاسم إلى مواقف سيارات؟
إن التفريط في مثل هذا الإرث العريق لأهل البحرين جريمة نكراء إن تجردت إدارة الأوقاف السنية من الاتهام بها وأثبتت ذلك، فإن عليها على أقل تقدير أن تشكل لجنة تحقيق لمعرفة الخلفيات التي أدت إلى الإهمال في الصيانة والحفاظ على مثل هذه المدارس العريقة، وكيف لوزارة الثقافة أن تسكت عن تسجيل مثل هذا التراث الذي يعكس عمق التجربة الثقافية والتعليمية لأهل البحرين؟
هكذا كان أهل البحرين في تلك الحقبة يدعمون وينهضون بحقل التعليم والتدريس خصوصا في المجال الشرعي من خلال الأعيان الوقفية، ولا شك أن ضياع معالم هذا التراث أو الإحياء له يمثل جناية خطيرة تستحق منا نحن أهل البحرين أن نقف وقفة رجل واحد على من تعدى على تراثنا العلمي العريق بالإهمال وعدم المتابعة للحفاظ عليه وصيانته وترميمه حتى يكون شاهداً على العراقة الثقافية لأهل البحرين.
وإذا كان هذا هو تراث أهل البحرين العريق في دعم قطاع الوقف وفق ما تقرره الوثائق التي تعكس دوره في حقبة ما قبل النفط، فإن دور الأوقاف بعد ذلك لو كان يتسم بالتراكمية لما وجدنا حال الأوقاف اليوم بهذه الصورة، فهي تعيش حالة من التهميش والإهمال وعدم التطوير بما يواكب احتياجات المجتمع الآنية والمستقبلية، لاسيما في ظل انشغال إدارة الأوقاف السنية بإدارة شؤون المساجد وتعيين ونقل الخطباء والأئمة والمؤذنين وغيرهم بدلاً من أن تنشغل برعاية الأعيان الوقفية وتنميتها وتطوير نطاقها وإعادة إحيائها، وهذا ما يجعل من الأجدر تسميتها بإدارة شؤون المساجد بدلاً من تسميتها بإدارة الأوقاف.
إن قطاع الأوقاف في ظل ضعف الاهتمام الرسمي والأهلي به قد أصبح مهدداً ومعرضاً للاضمحلال رغم أهميته في تنمية المجتمع في ظل غياب البعد الاستراتيجي للاهتمام به، وليس من شك في أن الإدارات المعنية بذلك مسئولة في المقام الأول عن هذا الحال المتردي، سواء في إهمالها للأعيان الموقوفة التي وقفها أصحابها قبل عشرات السنين، أو في إحيائها للتنمية الوقفية وربطها بتطوير الخدمات المختلفة للمجتمع، وهذا ما جعلنا نولول ما بين البكاء على أطلال الماضي الذي لم نعد حتى نرى آثاره التي تعكس عراقة الثقافة البحرينية في توظيف الوقف لخدمة العلم وأهله، وبين النحيب على أوضاع الأوقاف البحرينية في ظل ضعف الإدارة التي يمكن من خلالها بناء منظومة وقفية مؤثرة في دعم وتنمية المجتمع ضمن مختلف القطاعات الخدمية، ولا شك أن تغيير هذا الواقع يحتاج إلى مبادرة من قيادتنا الرشيدة التي تنظر بعين البصيرة إلى الأوقاف ودورها في تنمية وبناء المجتمع.
زبدة القول
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسكت المجتمع عن هذه المأساة التي ضاع من خلالها تراثنا الوقفي العريق بضياع المدارس المالكية الموقوفة، وما نلمسه من ضعف للدور الملموس لتمويل وإدارة الأعيان الموقوفة، وعليه فإننا نتطلع من القيادة الرشيدة بأن تنظر بعين الاهتمام إلى الحفاظ على التراث الثقافي العريق لأهل البحرين وتوليه من هو أهل لحفظه وصيانته، إلى جانب توظيف إدارة مؤهلة لتطوير الاستثمار في مختلف قطاعات الأوقاف، مع النظر في ذلك إلى التجارب الخليجية الحديثة التي بدأت مؤخراً وتجاوزتنا وسبقتنا بكثير من خلال إنجازاتها التي حققتها على أرض الواقع، سواء على مستوى توثيق التراث الوقفي العريق، أو على مستوى تطوير النظام الوقفي السائد.
انظر المقال على
http://www.albiladpress.com/column12006-15097.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق