أما رحلة اليوم فقد قام بها البحاثة السعودي حمد الجاسر إلى البحرين في عام 1947م ونشرت في كتاب (من سوانح الذكريات) الذي يقع في مجلدين ومجموع صفحاته (1152) صفحة، الكتاب عبارة عن جمع لذكريات الشيخ حمد الجاسر ومذكراته التي نشر معظمها في (المجلة العربية) في ثمان وتسعين حلقة، في الفترة من مارس 1986م، إلى نوفمبر 1996م، أما الشيخ حمد الجاسر فغني عن التعريف فهو من أبرز العلماء والباحثين في السعودية والعالم العربي، وعضو سابق في أكاديميات بغداد ودمشق والقاهرة، عمل في قطاع التعليم، والقضاء، والصحافة والنشر، وأنشأ (اليمامة)، أول صحيفة في الرياض في عام 1952، وتبعتها جريدة (الرياض) في عام 1976 وأخيرا (العرب)، وهي فصلية متخصصة في تاريخ وآداب شبه الجزيرة العربية. أنشأ حمد الجاسر أول دار للطباعة في نجد في عام 1955، وفي عام 1966 أنشأ دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، وتوفي في عام 2000م رحمه الله. يحكي الشيخ حمد الجاسر رحلته إلى البحرين في عام 1947م يقول:
"ومن الأصدقاء الذين مكثوا أياماً في الظهران في تلك الحقبة من الزمن الشيخ عبد الله بن سليمان المزروع وهو رجل لطيف المعشر، إلا أن له تصرفات تبدو غريبة في بعض الأحيان، فبعد أن مكث أسبوعاً متنقلاً بين الأحساء وبين الدمام، أبدى لي رغبته في السفر معاً إلى البحرين، فوافقت بشرط أن يترك لي أمر النزول هناك لأني أدرك كثرة أصدقائه في تلك البلاد وتقديرهم له بحيث توقعت أن يستضيفه أحدهم، وما أشق على نفسي من أن تترك لي حرية الاختيار بما يتعلق في سكني وطعامي، وقد وافق على هذا، ولما وصل بنا الزورق الذي ركبنا فيه من ميناء الخبر إلى رصيف المرفأ في البحرين، إذا بالشيخ حسن بن عبد العزيز العجاجي يستقبلنا ، ثم يدعونا للركوب معه في سيارته إلى بيته، ولما أبديت لصاحبي تأثري من تصرفه صار يكرر كلمة الله يهديك الله يهديك بيت الشيخ حسن أوسع من كل فنادق البحرين!! والشيخ حسن من وجهاء تلك المنطقة، وهو أحد أفراد أسرة آل العجاجي، المعروفة بالثراء العريض في المنطقة كلها، وأثناء نزولنا عنده تم التعارف بيننا وبين إبراهيم العريض الشاعر المشهور، فقد كان يقوم بتعليم أبناء الشيخ حسن اللغة الإنجليزية، وكان موظفاً في شركة نفط البحرين.
وفي أحد الأيام قال لي صاحبي: لقد اهتديت إلى مكتبة عظيمة، توارثتها أسرة من أغنى الأسر، وفيها مخطوطات، وقد اتفقت مع صاحبها على أن أقوم أنا وأنت بزيارتها عند الساعة الرابعة صباحاً بالتوقيت الغروبي، وستحضر إلينا سيارة تقلنا من البيت إلى مقر المكتبة، فوافقت، وكان الذهاب في الوقت المحدد، ولكنني استغربت حين دخلت بنا السيارة في فناء قصر كبير فخم، رأينا في مدخله عدداً غير قليل من الرجال الذين يبدو من مظهرهم أنهم من الجند، وبعد أن علم بنا أحدهم أفسح للسيارة الطريق حتى اجتازت الفناء وبلغنا باباً داخلياً فنزلنا منها، وصعد بنا إلى الدور الأول، فإذا مجلس واسع، فيه أناس جالسون على الأرائك، وآخرون على الأرض، فاتضح لي أنه مجلس أمير، ولم نفتأ إلا بالشيخ سلمان بن حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البلاد يدخل ويتصدر المجلس بعد السلام وبعد أن قدمت أنا وصاحبي له، فكان سؤال عن الحال، واستيضاح عن مكان القدوم، فأجبت بأنه الظهران، فعلق ذلك قائلاً: الظهران يبل وهو مكان النفط، وعندنا يبل مثله اسمه الدخان وفيه مقر النفط. فعلقت على هذا بأن الصلات بيننا وبينكم طال عمركم في كل جانب من جوانب الحياة، فأنتم انتقلتم من الأفلاج من نجد فقال: صحيح صحيح الشيخ محمد وهو مؤرخ لديه معرفة في ذلك، وبعد برهة من الوقت كان الانصراف، وكانت زيارة في المساء للشيخ محمد بن خليفة برغبة مني، واستحسان من مضيفنا، وقد أعجبني في هذا الرجل كثرة محفوظه من الشعر الفصيح والعامي، وعنايته بما يتعلق بتاريخ هذه البلاد، ويعد حجة فيما يتعلق منه بالأسرة الخليفية، ومن محفوظه أكثر ما قاله الشعراء في مدحها، وقد رجعت إليه حين رغب مني الأخ سعد بن رويشد الإشراف على نشر ديوان ابن عثيمين، في تلقي إحدى قصائده من إملائه وكان يصطاف في بحمدون في لبنان.
وفي صباح أحد الأيام قال لي صاحبي: ما رأيك يا أبا مي أن تفك الريق بمراصيع وتمر ولبن وزبد بقر. وصار يكرر كلمة زبد زبد! ويمثل بيديه مجموعتين كالكرة، للتدليل على عظمه، فابتسمت وأبديت بأن مضيفنا الكريم، وكان حاضراً سيقدم لنا ما نختار، ولكن حسناً نفسه أضاف: لقد اتصل بي سعد الشملان يدعوكما، وأرجو أن تستجيبا لدعوته للغداء في هذا اليوم، وعندنا مثل من فطر غدى، ولهذا فقد بعث لكما سيارته للذهاب إلى بيته في إحدى ضواحي المدينة، فكان الذهاب إليه، ويقع على مقربة من عين مشهورة في جزيرة البحرين تدعى عذاري، وهي حين شاهدناها أشبه ببحيرة مستديرة، يقارب قطرها عشرة أمتار، وكانت المياه منها قديماً تجري إلى ما حولها من الحدائق والبساتين، بحيث كان الموقع من متنزهات البحرين المشهورة، ولكن ماءها ضعف، وقد علمت فيما بعد بأنها ردمت بسبب ما كان يخشى من تلويث المنطقة بالروائح المنبعثة من مياهها الآسنة، ولما يلقى فيها من أوساخ.
وعرفت لسعد الشملان هذا ابنين أحدهما عبد العزيز، وكان إذ ذاك رئيس نادي العروبة، وكان من أبرز شباب هذه البلاد في حركة التحرر من الاستعمار البريطاني، وله في هذا السبيل دور معروف، وفي البحرين في ذلك العهد ناديان ثقافيان نادي العروبة ونادي البحرين.
والابن الآخر لسعد الشملان عبد اللطيف، وقد درس في مصر في عشر الستين من القرن الماضي، حتى أكمل دراسته في دار العلوم وعمل في الكويت وآخر عهدي به حين كان ملحقاً ثقافياً في لبنان لحكومة الكويت في عشر التسعين من القرن الماضي، وكنت عرفته في القاهرة لصلته ببعض النجديين هناك.
وفي المساء كانت زيارتنا لنادي البحرين، وكان يضم مكتبة تحوي أنواعاً من الكتب الحديثة، التي لم تكن منتشرة في بلادنا، وترد إليه أشهر المجلات التي كانت تصدر في العراق أو سوريا أو مصر، ويرتاده المثقفون لمطالعة ما يرغبون في مطالعته، ويسمح بالإعارة لفترة لا تتجاوز أسبوعاً، وكان ممن عرفت من أولئك الأستاذ علي محمد التاجر، وقد علمت بأن والده من علماء البحرين المعروفين، يقتني مكتبة لا تخلو من مخطوطات قديمة، فذهبت أنا وصاحبي لزيارته في الصباح، فاستقبلنا بحفاوة ولطف، واطلعنا على مؤلف له يتعلق بتراجم أهل البحرين، وهو يقصد المسمى الشامل للبلاد التي تعرف قديماً بهذا الاسم، كما أطلعنا على بعض مخطوطات أخرى أسفنا أننا لن نستطيع الاستفادة منها لقصر وقت إقامتنا في هذه البلاد، ولعدم تمكننا من نقل ما نريد منها.
وفي المساء حين أتينا النادي، أبديت لابنه الأستاذ علي التاجر ارتياحنا وسرورنا لزيارة والده، وبمشاهدة بعض نفائس ما لديه من الكتب، ففوجئت بقوله: كل تلك الكتب لا فائدة منها، فقلت مستغرباً: وبماذا يستفاد؟ فقال: بالقرآن الكريم، وبديوان أبي الطيب المتنبي، وبكتاب ضوء في دراسة التوحيد لأحمد صبري شويمان، وشويمان هذا كان قد أسس في مصر جماعة تدعى الأنصار، وأصدر مجلة بهذا الاسم لنشر أفكاره التي تقوم على أساس تفضيل العرب على جميع الأمم، ولكنه كان يغالي في ذلك، بحيث يرى أنهم في جاهليتهم أفضل من غيرهم، وأن ما ينسب إليهم من ارتكاب أمور جاء الشرع الإسلامي الحنيف بتحريمها وإبطالها، منها ما كانت نسبته إليهم غير صحيحة، ومنها ما كانت له في ذلك العهد مسوغات تجيز ارتكابه، ومنها ما كانت حياتهم تضطرهم إلى فعله، فهم في كل ذلك معذورون، ولاشك أن كثيراً من آرائه على خطأ واضح، ومع ذلك فقد لاقت فكرته تقبلاً لدى عدد قليل من الشبان، كان منهم في البحرين أحد أفراد أسرة الخليفية وهو شاعر ويدعى إن لم تخني الذاكرة محمد بن أحمد، ومنهم علي التاجر، ومنهم في مصر وفي الأردن وغيرها، وكانت مجلة الأنصار تحمل بعنف وشدة على علماء الدين كالشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة وعلى غيره. وقد آلت الحال بشويمان أن حاول أن يعيش عيشة البداوة، فاقتنى غنماً واتخذ بيتاً من شعر، وذهب إلى صحراء السويس، ولكنه هوجم هناك وأخذ جميع ما معه.
وفي البحرين مكتبة تدعى مكتبة المؤيد لبيع الكتب، ومع صغرها يعجب المرء لكثرة ما يجتمع فيها من المؤلفات الحديثة من منشورات مصر والعراق والشام، مع مطبوعات بعض البلاد الأخرى كإيران والهند وترد إليها أشهر المجلات العربية".
المصدر: من سوانح الذكريات، حمد الجاسر، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، إشراف مركز حمد الجاسر الثقافي، الطبعة الأولى 2006م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق