بقلم د. ضياء الكعبي
صحيفة الوطن - العدد 2039 الأثنين 11 يوليو 2011
يُختزل سُنة البحرين في كتابات عدد من الباحثين البحرينيين ضمن تيار الموالاة الانتهازية للنظام الحاكم في حين يُصنف الشيعة ضمن تيار المعارضة التي بإمكان الدولة أن تستفيد منها عندما تُحوّلها إلى معارضة بنّاءة لخدمة الدولة المدنية الحديثة، وتأتي خطورة مثل هذه الكتابات الزائفة والمشوِّهة للحقيقة من كتابٍ يصدرون عن عقلية إيديولوجية إقصائية تتستر برداء الحداثة والوطنية، في حين أن منبعها الرئيس منظومة طائفية بغيضة تجتهد في تخويف السلطة من التحالف مع السنة؛ لأن الموالاة بينهما قائمة على منافع ومكاسب وامتيازات للطرف الثاني ومتى ما ذهبت هذه الامتيازات ستنكشف هذه الجماعات الطفيلية الانتهازية''السُنية''! وتنتهي الموالاة الميكافيللية! كما تجتهد مثل هذه الكتابات الطامسة والمغيبة للحقائق التاريخية في إلغاء قرن كامل من الحركة الوطنية التي كان قادتها الوطنيون في جلّهم من الطائفة السُنية، وهذه الحقائق التاريخية الساطعة تنسف أكذوبة الموالاة السُنية الانتهازية التي تروّج لها بعض الأقلام الطائفية عن عمد وبقصدية واضحة! إنَّ أمثال هذه الكتابات التي سمعنا دويها ولانزال في الفترة الأخيرة لم تجد للأسف من يتصدى لها لكشف مغالطات خطابها الخاص بسٌنة البحرين الذين برز من بين ظهرانيهم قادة الحركة الوطنية البحرينية المعاصرة. سأطلق على هذه الحركة الوطنية التي ظهرت منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي تسمية حركة ''المناصحة الوطنية السياسية البحرينية''؛ فهي حركة سعت رغم تباين مرجعياتها وأطرها الفكرية والسياسية والثقافية إلى مناصحة الحاكم ضمن المشروع الإصلاحي للدولة البحرينية الحديثة منذ عهد المغفور له الشيخ عيسى بن علي آل خليفة المعروف بوطنيته الشجاعة في التصدي لمخططات الاستعمار البريطاني وأهدافه الخبيثة الرامية لزرع الفتنة الطائفية بين السُنة والشيعة، وترسيخ مبدأ مظلومية الشيعة واضطهادهم وأحقيتهم في الحكم، وهي سياسة الاستعمار مع الدول ذات التعدديات الطائفية والمذهبية في كل مكان! وقد نجحت السياسة التي دشنها الكابتن البريطاني نورمان براي منذ أواخر القرن التاسع عشر في تأسيس حزب من الشيعة البحرينيين الموالين لبريطانيا في صراعها مع الشيخ عيسى بن علي مستغلاً القضايا الطائفية الحساسة. كما سعى براي إلى مناوأة البحرينيين السُنة بسبب عدائهم الشديد لبريطانيا، وهو عداء متوّلد من التأثر بالقومية العربية الصاعدة آنذاك في مصر وبلاد الشام وبالنهضة التنويرية العربية لجيل بحريني مثقف شاب -أطلق عليه كل من محمد عبدالقادر الجاسم وسوسن الشاعر- تسمية ''مجموعة المحرق''. وهو جيل تشكّل في بوتقة الهوية العربية الإسلامية المناهضة للاستعمار البريطاني، وقد غذت هذا الشعور القومي الصاعد الصحف العربية التي تصل إلى البحرين آنذاك مثل المقتطف والمنار والأهرام والهلال إلى جانب سفر بعض الطلاب البحرينيين إلى الهند للدراسة وتأسيس النادي الأدبي عام 1920 بتطلعاته التنويرية والتي كان في مقدمة رواده شيخ الأدباء الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة والأديب ناصر الخيري مؤلف كتاب ''قلائد النحرين في تاريخ البحرين''، وهو رغم انتمائه إلى طبقة الموالي المضطهدة اجتماعياً آنذاك إلا أنه أسفر في تكوينه الثقافي عن وعي تنويري مكنه من انتقاد السلطة والدعوة إلى مشروع إصلاحي سياسي. وقد أسست مجموعة المحرق التنويرية بالتعاون مع أهالي المحرق أول مدرسة نظامية في الخليج العربي هي مدرسة الهداية الخليفية عام .1919 كما تولت مهمة إصدار العرائض لانتقاد سياسة الانتداب البريطاني وإرسالها إلى بوشهر. على الطرف المقابل لتيار الموالاة الشيعي البحريني لبريطانيا ظهر تيار مناصحة ''سُني بحريني''، ويُؤرّخ لتيار المناصحة السياسية البحرينية ''السُنية'' منذ الفترة الممتدة من 1904-,1923 وهي الفترة التي شهدت ذروة الصراع السياسي بين الشيخ عيسى بن علي والإنجليز، وانتهت بعزل الشيخ. لقد ظهرت في هذه الفترة أسماء قادة وطنيين من رجالات السُنة البحرينيين المشهود لهم بوطنيتهم الحقة وهم الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة والشيخ عبدالوهاب الزياني وعبدالرحمن الزياني وعبدالرحمن الوزّان وقاسم الشيراوي وشاهين بن صقر الجلاهمة وعلي الفاضل وعبدالله بن حسن الدوسري وعيسى بن أحمد الدوسري ومحمد بن صباح البنعلي وأحمد بن لاحج والشيخ عبداللطيف بن محمود والسيد عبدالله بن إبراهيم وحسين بن علي المناعي ومحمد بن راشد بن هندي وأحمد بن قاسم الجودر وجبر بن محمد المسلم ومهنا بن فضل النعيمي وغيرهم. وظهرت مطالبات لإنشاء مجلس تشريعي وإجراء بعض الإصلاحات السياسية والمعيشية ومنها تأسيس برلمان منتخب يراعي مصالح الناس. وقد كتب الوكيل السياسي البريطاني الميجر ديكسن قبل مغادرته البحرين واصفاً الوضع السياسي فيها أنَّ ''هناك استياءً سُنياً ضد الإنجليز بسبب الفكر الديني والقومي وعدائهم المتزايد ضد بريطانيا''. كما أشار ديكسن في مراسلاته مع حكومة المستعمرات إلى المواقف المعارضة التي تتخذها بعض القبائل البحرينية مثل قبيلة الدواسر ممثلة في زعيمها الشجاع الشيخ أحمد بن عبدالله الدوسري، وهذه القبيلة العربية الأصيلة التي رفضت الخضوع لأوامر السلطات الاستعمارية البريطانية وآثرت الرحيل عن البحرين واستقرت بالدمام سنة 1923 ثم عاد جزء من القبيلة إلى البحرين بعد ذلك. وقد راقبت السلطات الاستعمارية البريطانية هذه الحركة الوطنية البحرينية الوليدة بحذر شديد، وأحكمت كماشتها للقضاء عليها فسعت إلى فرض ''قانون المستعمرات'' على البحرين منذ عام ,1909 ويمنح هذا القانون بريطانيا سلطات تمكنها من تحجيم سلطة حاكم البحرين ومن نفي المشاغبين البحرينيين المعارضين لسياساتها إلى مستعمرات بريطانية كالهند أو سانت هيلانة أو غيرها! فقد نُفي الشيخ سعد الشملان والد المناضل الوطني عبدالعزيز الشملان إلى الهند، وكان نفيه ببضعة أيام قبل نفي كلٍ من الشيخ عبدالوهاب الزياني وأحمد بن لاحج عام 1923 كما لاحظ ذلك الباحث البحريني بشّار الحادي، وكان نفي الثلاثة بعد عزل الشيخ عيسى بن علي من قبل الإنجليز. وقد ردَّ الميجر ديلي على اعتراض أهالي البحرين على نفي الزعيمين الزياني وبن لاحج قائلاً ''من يريد أن يلحق بعبدالوهاب الزياني أي في السفينة فأمامه الباب الشمالي المؤدي للفرضة فليلحق به، ومن أراد غير ذلك فأمامه الباب الشرقي ليخرج منه!''. وقد تابع هذان الزعيمان الوطنيان الدفاع عن قضية الشيخ عيسى بن علي بوصفهما وكيلين عنه في محاكم الهند إلا أنَّ وفاة الزياني أنهت تلك المتابعة. استمر تيار المناصحة الوطنية البحرينية متدفقاً في عطائه في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي مع ظهور ''جريدة البحرين'' للأديب البحريني عبدالله الزايد في مشروعه الوطني الإصلاحي. كما برزت المطالبات العمالية لعمال النفط البحرينيين المشتغلين في بابكو في هذه الحقبة الوطنية، وهنا تبرز أسماء كل من سعد الشملان وأحمد الشيراوي. وتحولت الأندية كما يذكر محمد الرميحي في كتابه ''البحرين، مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي'' من ''أندية رياضية إلى بؤر للفكر السياسي ولتبادل الأفكار والآراء'' وخاصة نادي البحرين المعروف سابقاً باسم نادي الشبيبة. في الخمسينات من القرن الماضي تأسس أول حزب سياسي في منطقة الخليج العربي ممثلاً في ''هيئة الاتحاد الوطني''، وهي حركة وطنية شعبية بحرينية إصلاحية تكونت جمعيتها العمومية من مائة وعشرين عضواً، وضمت لجنتها العليا التنفيذية ثمانية أعضاء من السنة والشيعة وترأسها الأمين العام للهيئة عبدالرحمن الباكر إلى جانب السيد علي بن إبراهيم ومحسن التاجر وإبراهيم بن موسى وعبدالله أبوذيب وعبدعلي العليوات وعبدالعزيز الشملان وإبراهيم فخرو. وامتد تاريخ هذه الحركة الوطنية من أكتوبر 1954 إلى نوفمبر .1956 وقد اصطدمت الهيئة بسلطات الاستعمار البريطاني التي حاربتها بسبب تعاظم الشعور القومي بين أعضائها فكان مصير ثلاثة من قادتها النفي إلى جزيرة سانت هيلانه التي كانت منفى نابليون بونابرت، وهنا يعود مرة أخرى قانون المستعمرات! والقادة الثلاثة المنفيون هم الباكر والشملان والعليوات. وكان مصير اثنين من قادتها السجن في جزيرة جدا وهما إبراهيم بن موسى وإبراهيم فخرو اللذان قضيا عشرة أعوام كاملة في السجن، وخرج بن موسى وبعد أيام قليلة انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد نضال وطني مشرف. وقد وقفت الهيئة موقفاً وطنياً في الدفاع عن البحرين ضد الأطماع الإيرانية في الخمسينات وذلك في مجلة ''صوت البحرين'' الصادرة عن الهيئة. كما كان للشملان موقف وطني مشرف عندما حاول إقناع الآلاف من أبناء القبائل العربية الأصيلة في الخمسينات (البوكوارة والكعبان والنعيم والكبسة والسلطة وغيرهم) بوقف هجرتهم إلى قطر في الخمسينات من القرن الماضي بسبب التضييق عليهم من سلطات الاستعمار البريطاني. ورغم أن جهوده لم تفلح لكن يحسب له محاولته الحفاظ على هذا المكون العربي الأصيل. واستمر المد القومي ثم البعثي والماركسي في تيارات المعارضة البحرينية في الستينات والسبعينات حيث الحركة الطلابية البحرينية من سُنة وشيعة في جامعات الكويت وبيروت والقاهرة وبغداد. وهي جميعها -رغم اختلافنا مع مرجعيات بعضها- تيارات وطنية لم تستقوِ بالأجنبي، ولم تسعَ لخلق إيديولوجيات طائفية بغيضة، ولم تدمر اقتصاد البلاد، ولم تشوه هويته العربية، وإنما سعت إلى تحقيق إصلاحات سياسية ومعيشية.. تباينت اجتهاداتها وتأويلاتها ولكنها في الأحوال جميعها كانت تيارات مناصحة وطنية بعيدة عن الانتهازية السياسية، وهي المناصحة التي نريد في منظومة الحكم السياسي الرشيد وخاصة المناصحة السُنية التي يجب ألا تُحجم من قبل الدولة وألا يُخشى منها حتى لا تتكرر محنة فبراير بسبب اختزال المعارضة في جماعات محدودة معروفة بأجندتها الخاصة! ولن يتحقق التوازن السياسي مطلقاً بهذا الاختزال!
صفحة تعنى بتاريخ البحرين والخليج العربي للتواصل مع صاحب المدونة basharalhadi58@gmail.com
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
القول الجلي في تحقيق مولد سمو الشيخ عيسى بن علي بقلم الباحث بشار الحادي
القول الجلي في تحقيق مولد سمو الشيخ عيسى بن علي وهو سمو الشيخ عيسى بن علي بن خليفة آل خليفة حاكم البحرين طيب الله ثراه ...
-
موقع الحاج محمد المتروك من تجار الكويت يحتوي على الكثير من الوثائق القيمة والمراسلات انظره على هذا الرابط http://bin-matrook.com/gallery/mai...
-
أسماء نواخذة البحرين مرتبين على حروف المعجم بين عامي (1920-1960) هذه قائمة بأسماء النواخذة التي عثرنا عليها من خلال وثائق البلدية إ...
-
شيخ قبيلة النعيم راشد بن مهنا النعيمي (1266هـ-1338هـ)(1850م-1920م) هو: شيخ قبيلة النعيم، وعُمدة حالة النعيم، تاجر اللؤلؤ المشهور، الشيخ راشد...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق