حرياً بنا والبحرين تخط طريقها بثبات نحو إجتياز «محنة فبراير» أن يعاد الاجماع بين جميع مكونات الشعب على ثوابت مسيرة الاصلاح التي يقودها عاهل البلاد المفدى منذ مطلع القرن الحالي، وعلى التطلع نحو المستقبل الأكثر إشراقاً. قيل وسيقال الكثير عن مسببات ونتائج «محنة فبراىر»، على أن أكثر جوانبها سطوعاً هي تلك المتعلقة بإشكالية تطبيقات/ممارسة المواطنة الحقة وعلاقتها بالهوية والإنتماء.
المواطنة الحقة إنتماءً صريحاً ومباشراً للفرد لوطنه، بحيث يعلوا الإنتماء للوطن على أي إنتماء عرقي أو ديني أو مذهبي، أو غيره. لقد كشفت لنا «محنة فبراىر» الحاجة إلى النظر في إشكالية مفهوم المواطنة والإنتماء والهوية لدى بعض من مكونات المجتمع البحريني، الأمر الذي مكن قادة «الفوضى الخلاقة» كما تظهره التجربة إلى حسن إستغلال أزمة الإنتماء هذه إلى إيصال تلك المكونات إلى حالة الارتطام الماحق والسريع بالحائط الواقعي للمجتمع البحريني. أين تكمن إشكالية المواطنة والإنتماء والهوية لدى بعض مكونات المجتمع البحريني؟
المكونات الاجتماعية .. المواطنة والإنتماء:
إذا افتراضنا أن أبرز مكونات المجتمع البحريني، من الناحية الاجتماعية والثقافية بالمعنى السوسيولوجي، هي: المكون الأول والمعروف بـ «العرب السنة»، والمكون الثاني المعروف بـ «البحارنة»، والثالث والمعروف بـ «العجم».
المكون الاجتماعي الأول:
نلحظ أن التحولات الاجتماعية التي مرت بها البحرين منذ بداية القرن العشرين قد أسهمت في إنصهار مكون «العرب السنة»، بكل تنويعاته، في وعاء الحضارة العربية الأم برموزها الثقافية المحلية المتجسدة في الهوية الخليجية. إذاً نحن هنا مع مكون اجتماعي يمتاز بمزيد من الإنسجام الدخلي، والإنصهار التام في الوعاء الحضاري العربي العام والمتجسد في الثقافة والهوية الخليجية، وعليه فأن هذا المكون لا توجد لديه أي إشكالية في انتماء مجتمعه للمجتمع الأم، الجزيرة العربية. كما لايرى في نظامه الاجتماعي أو السياسي أية حالة غير طبيعية؛ أي من حيث الاعتقاد بدور الفتح العربي الذي قاده آل خليفة للبحرين، هذا الفتح الذي أعاد تكريس إنتمائها إلى الجزيرة العربية الأم، بل وإنهاء كافة أشكال محاولات الهيمنة الفارسية عليها.
المكون الاجتماعي الثاني:
دعونا الآن نقترب من المكونات الاجتماعية الأخرى، أما فيما يخص المكون الاجتماعي الثاني، المتعارف علي تسميته بـ «البحارنة»، فقدتنامت سرعة الانصهار الاجتماعي في مجتماعته المحلية، في المدن والأرياف، آخذين بعين الاعتبار الإعداد الكبيرة من الشيعة العرب الذين وفدوا إلى البحرين، من القطيف والمحمرة وجنوب العراق، خلال ستون عاماً الأخير من القرن العشرين. ظل الإنتماء الأبرز لهذا المكون للحضارة العربية وللثقافة العربية الأم، وكان يقود هذا الإنتماء ويكرسه نخب «بحارنة المنامة» من التجار والأعيان ومن المثقفين والتكنوقراط ممن تلقوا تعليمهم الحديث في البحرين وخارجها.
وامتازت هذه النخب بعمق إنتمائها العربي، بل بانخراطها في العمل السياسي ذو الطابع القومي العربي. إن إلقاء نظرة على أسماء بعض من قيادات الحركات السياسية لكفيل بتأكيد هذه الخلاصة التاريخية، لكن ثم ماذا حدث؟
تعرض هذا المكون الاجتماعي إلى ما يشبه الانقلاب الاجتماعي على نخبه، فقد ترتب على قيام الثورة في إيران في نوفمبر 1979م، بالاضافة إلى إنحسار المد القومي العربي، إلى ما يشبه الإطاحة بالنخبة القائدة الحضرية، وإحلال أخرى دينية تنتمي إلى الإرياف. وإستطاعت قيادة الثورة الإيرانية أن تستوعب هذه النخبة الدينية القائدة للمكون الاجتماعي الشيعي العربي ضمن مشروعها لتصدير الثورة الاسلامية ومنظومتها المتمثلة في إحياء الصفوية ونظام ولاية الفقيه، بديلاً عن المذهب الجعفري السائد بين الشيعة العرب وكذلك بمدرسته الفقهية «الإخبارية». وهكذا أخذت تبرز بين صفوف هذا المكون الاجتماعي البحريني حركات وتنظيمات سياسية أخذت تتولى العمل إلى جانب المؤسسات الدينية التقليدية، كالمآتم والحوزات، على تعميق الفجوة بين المكون الحضاري العربي في الخليج والجزيرة العربية كهوية وإنتماء، واللحاق المتسارع بمشروعات الإنتماء المذهبي الجديد العابر للأوطان والمتجسد هذه المرة في إيران، حيث يقيم الولي الفقيه، وفي المرجعيات الدينية في العراق؛ نلحظ أن كل تلك المرجعيات العابرة للأوطان قد أضفت على نفسها، أو أضفي عليها، هالة من القدسية المبالغة تصل أحياناً إلى درجة الألوهية. ما أثر كل ذلك على هذا المكون الاجتماعي الذي نتحدث عنه؟
لقد جرى إحلال إنتماء آخر وهوية جديدة ومغايرة تتمثل في الإنتماء للعقيدة المذهبية أولاً، ثم الإنتماء للوطن ثانياً أو ربما ثالثاً. إن هذه الحالة المستجدة وضعت هذا المكون الاجتماعي الشيعي العربي في أزمة هوية عميقة، بالرغم من نداءات وإستغاثات بعض رجال الدين الشيعة من خطورة هذه الحالة، لذا فليس من المستغرب أن نسمع أو نقراء عن حالة الإختطاف التي تعيشها الطائفة الشيعية في البحرين وغيرها، والتي أصبح يعاني منها العديد من إبنائها ومثقفيها، بل أصبحت الحالة الراهنة تهدد حاضرهم ومستقبلهم الوجودي. لنقراء ما يقوله أحد أبناء هذا المكون عن ما آلت إليه حال هذا المكون من جراء حالة الاختطاف هذه، يقول الكاتب حسن عبدالله المدني: «تلونت الواجهات السياسية للعديد من المآتم بألوان الأحزاب، وكان العنوان الأبرز صور الزعامات الدينية السياسية البحرينية والإيرانية والعراقية واللبنانية التي تدل على التوجه السياسي للقائمين على تلك المآتم ومرتاديها، وإزدادت تلك الحرب ضراوة في عقد التسعينيات من القرن الماضي بني المهيمنين على المآتم التي تعد بالنسبة إليهم غنائم سياسية وبين المعارضين لتسييس هذه المؤسسة في الأصل».(1)
جلياً لنا إن الأساليب المتنوعة من الترغيب والتهديد والإرهاب التي مارستها النخب الدينية والسياسية الجديدة، التي تولت زمام قيادة هذا المكون الاجتماعي، منذ الثورة الإيرانية، قد عملت على وضع هذا المكون في حالة من المظلومية الإسطورية التي لا دخل للتاريخ والحضارة العربية المعاصرة أية مسؤلية، وقد عمل كهنة الثورة الإيرانية على صناعة أسطورة «آل البيت» وذلك لمحاولة خلق مساحة مشتركة من المظلومية الفارسية التي سوغت تاريخياً لنشأة وتأسيس التشييع الصفوي ومنظومة ولاية الفقيه.
إن حالة الإختطاف التي يعيشها هذا المكون الاجتماعي، المؤدية إلى محاولة إبعاده عن إنتمائه وهويته العربية، وعن تأصيل إنتمائه الوطني وحقه الأصيل في المواطنة الحقة، قد ترتب عنها خسارة هذا المكون لزعاماته ونخبه المتعلمة، القومية والعلمانية منها، والتي كان لعدد غير قليل منها شرف المساهمة في بناء الدولة الحديثة منذ بدايات القرن العشرين.
ومن مظاهر خطورة هذا الاختطاف، وغياب النخب المدنية المتعلمة، أن تم الاستحواذ على الشارع السياسي الشيعي وعلى العوام، في القري قبل المدن، والزج بهم في مشروعات متتالية من المواجهة مع الدولة، من جهة، ومع بقية المكونات الاجتماعية، من جهة أخرى.
وكانت كثيراً من تلك المواجهات التي حمل بعضها الطابع السياسي التأزيمي والآخر الأميل إلى العنف وإرهاب الشوارع، تنفيدا لمسلسل إنهاك الدولة تدريجيا حتى يدب فيها الوهن ويستشري الفساد في مؤسساتها، وبالتالي يسهل الإنقضاض عليها في مرحلة لاحقة، تطبيقاً لمشروعات مشابهة في مجتمعات عربية أخرى.
وليس أبلغ اليوم إلى ما آلت إليه حالة هذا المكون الاجتماعي خلال «محنة فبراير»، فقد زُج هذا المكون زجاً قسرياً في هذه المحنة بعد أن تم إستلابه من قبل نخبه الجديدة التي وضعت إنتمائها المذهبي بديلاً عن إنتمائها الوطني، وهكذا وجد الفرد في هذا المكون نفسه أمام جدار المكونات الاجتماعية الأخرى وهو في حالة من الصدمة: هل يواصل إنعزاله في حالة من المظلومية الأسطورية المُكرسة للإنتماء المذهبي على حساب المواطنة الحقة والإنتماء الوطني؟ إن أمام هذا المكون الاجتماعي حاجة ملحة، لاتختلف عن مكونات اجتماعية شيعية عربية مشابهة، للقيام بالاندماج الحضاري العربي التام، والابتعاد عن القوى والدول المعادية للأمة العربية، والقائمة على كراهية العرب وإزدرائهم عنصرياً، خاصة الدول الثيوقراطية مثل: إيران وإسرائيل.
المكون الاجتماعي الثالث:
للننتقل الآن إلى المكون الاجتماعي الثالث للمجتمـع البحريني، ونعني به هنا تحديداً «المكون الشيعي المنحــدر من أصــول فــارسية»، والمتعـارف عليه محلياً بـ «العجم». بخلاف بقية المكونات الأخرى يمتاز هذا المكون بوجود هوية إثنية جامعة له، وإن كانت شكلية الطابع، وهو الإنتماء إلى إجداد وأسلاف إنحدورا من مناطق متفرقة من إيران.
أما على أرض الواقع فيمتاز هذا المكون بتنوع شديد وتشرذم، نظراً للخلفيات الطبقية والتمايزات القرابية والإثنية الطابع، مما جعل هذا المكون الإقل إنصهاراً بين مكوناته الداخلية. لعبت الخلفية الإثنية والمذهبية لهذا المكون دوراً في جعل الأجيال الأولى من المهاجرين إقل إنصهاراً في المكون الاجتماعي العام، ومن المسببات التاريخية لعدم الإندماج التام: طبيعة العلاقة الموتورة والعدائية بين بلد المهجر، أي البحرين بصفتها وطناً جديداً، وبين بلد المنشأ، أي إيران بصفتها الوطن القديم.
لقد انعكست السياسيات العدائية والتوسعية الطابع لمختلف الحكومات التي تناوبت على حكم إيران في جعل هذا المكون الاجتماعي في البحرين يعيش حالة من الريبة، وذلك في ضوء حالة العداء القائمة بين الوطن الجديد والوطن القديم، وليس بخاف على أي دارس للتاريخ ما سببته الحماقة والرعونة السياسية من مشكلات متعدد لنظام الحكم في إيران، منذ تأسيس الدولة الصفوية في عهدالشاة إسماعيل بين حيدر الصفوي في بداية القرن السادس عشر، إنتهاءً بمشكلات النظام الحالي للملالي والكهنة.
وهكذا بعد عقود من الحروب الخاسرة مع دول الجوار مثل العثمانيين/الأتراك والأفغان خلال القرون الماضية، مروراً بعصر الإطماع والتطلاعات التوسعية خلا الحكم الملكي الشاهنشاهي البهلوي في القرن العشرين، وصولاً إلى الأطماع والتطلعات الجديدة التي تم تغليفها بلباس الثورة الإسلامية عبر مشروعات تصدير نموذج الثورة الإسلامية في إيران إلى الدول العربية والإسلامية، خاصة إلى تلك الدول التي يوجد بين مواطينها تجمعات سكانية من الشيعة.
ما علاقة كل هذه الخلفية التاريخية بطبيعة المشكلات الإندماجية للتكوين الاجتماعي الثالث؟
لقد إختار أعيان ووجهاء الأجيال الأولى من هذا المكون، وفي ضوء هذه المشكلات التاريخية، سياسية الإنغلاق والعزلة وبالتالي الابتعاد عن الشأن العام المحلي وذلك إتقاءً للشر. ومع مرور الوقت لعب هذا الموقف دوراً في تكريس الإنغلاق الاجتماعي والثقافي للمجتمعات المحلية لهذا المكون، مما أسهم تاريخياً في إبطاء عملية الإندماج في محيط الثقافة العربية العامة للوطن الجديد، فأصبح هذا المكون يعاني من إنشطار في وجدانه الثقافي وفي إنتمائه وهويته الثقافية، وإنشطاراً لاحقاً في شعوره بالمواطنة المشروخة.
وبالنظر للحالة التاريخية والاجتماعية التي وجد هذا المكون الاجتماعي نفسه عليها، أصبحت حالة الإزدواجية والإنشطار في الهوية والإنتماء تورث من جيل إلى آخر، هذا على الرغم من إنخراط الأجيال اللاحقة في برامج ومشروعات التعليم التي ترعاها الدولة، وإلتحاقهم بوظائف في مؤسسات عامة وخاصة. وبالرغم من كل ذلك ظل قطاع كبير من أبناء هذا المكون بعيداً، من الناحية الوجدانية، عن المكونات الروحية والثقافية للحضارة العربية التي ينتمي إليها وطنه.
ولعل من علامات هذا لإنغلاق والتقوقع على ثقافة و هوية الأباء والاجداد: إستمرار تفضيل أجيال متفرقة للحديث بالفارسية ولهجاتها المتنوعة، عوضاً عن التحدث بالعربية، وكذلك حالة القطيعة مع فنون الموسيقى والغناء العربي بصفة عامة، والمحلي بصفة خاصة، الأمر الذي ترتب عليه على سبيل المثال حالة من عدم الإنتماء للموسيقى والغناء العربي المحلي، بل تصل أحياناً إلى درجة النفور منه.
ومما ضاعف هذه الحالة الإنغلاقية الناتجة عن التردد وعدم والإندماج، عدم تشجيع الأبناء على الإنخراط في هذه الفنون على مستوى الممارسة والإبداع، لذا فأن الدارس للمجتمع والثقافة في البحرين سيلاحظ عدم وجود فنانين ومطربين يمتهنون ممارسة هذه الفنون، سواء بين المكون الاجتماعي الشيعي العربي بصفة عامة، أوالمكون الشيعي من ذوي الأصول الفارسية، بصفة خاصة.
سوف يكون أمراً غير منصفاً، بل غير موضوعياً، إذ لم يُأخذ بعين الاعتبار في هذا التعميم والإنطباع العام وجود بعض الحالات الإستثنائية لأبناء هذا المكون، أو ربما حتى جهود جماعية أو فردية للخروج من قيد هذا الإنعزال والتقوقع الاجتماعي والثقافي، خاصة وإن المجتمع البحريني يخلو تاريخه من إحتقانات وصراعات عرقية وطائفية مريرة كتلك التي مرت بها بعض المجتمعات في العالم، بل تسود المجتمع البحريني علاقات ودية بين مختلف المكونات الاجتماعية، ماضياً وحاضراً. على أن تسليط الضوء هنا على مشكلات هذا المكون الاجتماعي الأخير، بهذا القدر من التفصيل، يستهدف البحث عن ما يعانيه هذا المكون من مشكلات في الإنتماء والهوية، وبالتالي إنعكاسها على ممارسته للمواطنة الحقة. وسنلاحظ إنعكاس هذه المشكلات سلباً على إنجرار فئات من هذا المكون للتخندق المذهبي مع الحركة السياسية الشيعية بقيادة النخبة الدينية الجديدة، المروجة لوطن جديد يستلهم نموذجه من النموذج الإيراني للحكم الثيوقراطي القائم على ولاية الفقيه. سوف نلاحظ أيضاً إن عزلة وتقوقع هذا المكون الاجتماعي الشيعي، ذوي الأصول الفارسية، وإبتعاده عن الثقافة العربية ومكوناتها وإعلائه من القيمة الاجتماعية والروحية للثقافة الفارسية، قد أسهم عبر الأجيال المتفرقة في جعل هذا المكون يلتقي تاريخياً مع المكون الاجتماعي الآخر، أي الشيعي العربي، والسير خلف مشروعات النخبة الدينية الجديدة التي جعلت من النظام السياسي والديني القائم علي أسس مذهبية متمثلة في نظام ولاية الفقيه، ملهماً روحياً ونموذجاً يحتذى به، بل العمل على النضال من أجل تحقيقه على أرض الواقع.
وهكذا، كما جرى الإنقلاب على النخب التقليدية في أوساط المكون الشيعي العربي، جرى أيضاً الإنقلاب في هذا المكون الاجتماعي. فاستولت نفس النخبة الدينية الشيعية الـجديدة في البحـرين من التي أفـرزها النظــام الكهنـوتي في إيران علــى زمــام الأمـور في هذا المكون، هذا على الرغم من مشـاعر العـداء والإزدراء المتبـادل بين مــا يسمــى محــلياً بـ «البحارنة» و«العجم» في البحرين، وجرى تكريس الكهنوت الديني الصفوي، العابر للأوطان والأثنيات، في صفوف كلا المكونين عبر منظومة الاعتقاد بالولي الفقيه والمُقلد، وهكذا تم ربط أبناء هذا المكونات الاجتماعية بشبكة من المُقلدين تنتهي بتراتبية هرمية ينتهي رأسها عند الولي الفقيه.
مقاومة الطغيان الديني:
جديراً بنا ونحن نستعرض هذه الجذور الاجتماعية والتاريخية للمكونات الاجتماعية للمجتمع البحريني المعاصر، أن نتوقف قليلاً أمام عمليات المقاومة التي أبداها ولايزال أبناء المكونات الاجتماعية الشيعية البحرينية من «البحارنة» و«العجم»، ضد الهيمنة وسياسات السيطرة التي مارسها الكهنوت الإيراني، ولا يزال، عبر نخبه الدينية الجديدة من التي عمل على تأسيسها ورعايتها عبر نظام الحوزات الدينية في إيران وخارجها. لقد تفاوتت أشكال المقاومة، فقد تصدت بعض العوائل البحرينية من الشيعة العرب ضد محاولات الهيمنة على المآتم الحسينية التي عملت على تشييدها من عقود عديدة، كعائلة العريض، وبن رجب، والمديفع، والعصفور، وغيرها العوائل الشيعية من أعيان المنامة.
كما أخذت المقاومة أشكال أخرى من التصدي كالمقاومة الدينية، وقد تجلت تلك المقاومة في تصدي المدرسة «الأخبارية»، السائدة تقليدياً بين الشيعة العرب في شرق الجزيرة العربية، لهيمنة المدرسة «الأصولية»، ذات النفوذ الإيراني والمبنية على مبدأ الاعتقاد بولاية الفقيه باعتبارها ركناً أساساً من أركان المذهب الإثني عشري.
نذكر من هذه التجارب موقف فقهاء المدرسة الإخبارية من علماء وفقهاء المدرسة الجعفرية في البحرين سواء من العوائل المعروفة مثل رجال الدين من عائلة العصفور والمبارك، كما نذكر في هذا المقام الدور البارز الذي لعبه الشيخ سليمان المدني، وتجربة الجمعية التي كان يترأسها «جمعية الرابطة الإسلامي»، فقد إستلهمت هذه التجارب الدور الذي لعبته شخصيات دينية شيعية بارزة، كبعض الشخصيات اللبنانية: مثل الشيخ محسن الأمين، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ علي الأمين، وربما شخصيات دينية أخرى في العراق وإيران.
كل ذلك في محاولة منها للتصدي للهيمنة والتلسط الديني المركزي الذي قاد إلى إستكمال تأسيس تراتبية دينية شيعية في البحرين عبر هرامها الذي يقف على رأسه الولي الفقيه، ثم تليه جماعات سياسية ودينية، قد تتفاوت من حيث حجمها وتشددها الديني والسياسي، لكن الملاحظ أن جميعها يدور في فلك الملالي والكهنوت الإيراني المكرس للتشيع الصفوي عبر منظومة الولي الفقيه.
نورد هنا شهادة الكاتب حسن عبدالله المدني، وهو بالمناسبة إبن المرحوم عبدالله المدني شقيق المرحوم الشيخ سليمان المدني، كما وردت في مقالته السابق ذكرها، حيث يدون مرارة تلك التجربة قائلا: «بلغ هذا الصراع ذروته بحرق «مأتم القائم» في إسكان جدحفص بسبب رفض إدارته تسليمه إلى الفئة التي كانت تتسيد الشارع الشيعي في ذلك العقد، وهي حادثة غريبة على المجتمع البحريني ورغم غرابتها لم يدنها من الشيعة إلا جماعة الشيخ سليمان المدني رحمة الله بالإضافة إلى مجموعة من شيوخ الدين السنة»؛ ويستطرد قائلاً في نفس المقالة: «لم يقتصر إستلاب المآتم واختطافه على الواجهات السياسية الواضحة التي أصبحت مثل واجهات الأحزاب السياسية، بل تم تجيير المنبر الحسيني للترويج للجماعات السياسية في الداخل والخارج، والشحن ضد الدولة، وضد الرموز الدينية المستقلة».
المواطنة الحقة إنتماءً صريحاً ومباشراً للفرد لوطنه، بحيث يعلوا الإنتماء للوطن على أي إنتماء عرقي أو ديني أو مذهبي، أو غيره. لقد كشفت لنا «محنة فبراىر» الحاجة إلى النظر في إشكالية مفهوم المواطنة والإنتماء والهوية لدى بعض من مكونات المجتمع البحريني، الأمر الذي مكن قادة «الفوضى الخلاقة» كما تظهره التجربة إلى حسن إستغلال أزمة الإنتماء هذه إلى إيصال تلك المكونات إلى حالة الارتطام الماحق والسريع بالحائط الواقعي للمجتمع البحريني. أين تكمن إشكالية المواطنة والإنتماء والهوية لدى بعض مكونات المجتمع البحريني؟
المكونات الاجتماعية .. المواطنة والإنتماء:
إذا افتراضنا أن أبرز مكونات المجتمع البحريني، من الناحية الاجتماعية والثقافية بالمعنى السوسيولوجي، هي: المكون الأول والمعروف بـ «العرب السنة»، والمكون الثاني المعروف بـ «البحارنة»، والثالث والمعروف بـ «العجم».
المكون الاجتماعي الأول:
نلحظ أن التحولات الاجتماعية التي مرت بها البحرين منذ بداية القرن العشرين قد أسهمت في إنصهار مكون «العرب السنة»، بكل تنويعاته، في وعاء الحضارة العربية الأم برموزها الثقافية المحلية المتجسدة في الهوية الخليجية. إذاً نحن هنا مع مكون اجتماعي يمتاز بمزيد من الإنسجام الدخلي، والإنصهار التام في الوعاء الحضاري العربي العام والمتجسد في الثقافة والهوية الخليجية، وعليه فأن هذا المكون لا توجد لديه أي إشكالية في انتماء مجتمعه للمجتمع الأم، الجزيرة العربية. كما لايرى في نظامه الاجتماعي أو السياسي أية حالة غير طبيعية؛ أي من حيث الاعتقاد بدور الفتح العربي الذي قاده آل خليفة للبحرين، هذا الفتح الذي أعاد تكريس إنتمائها إلى الجزيرة العربية الأم، بل وإنهاء كافة أشكال محاولات الهيمنة الفارسية عليها.
المكون الاجتماعي الثاني:
دعونا الآن نقترب من المكونات الاجتماعية الأخرى، أما فيما يخص المكون الاجتماعي الثاني، المتعارف علي تسميته بـ «البحارنة»، فقدتنامت سرعة الانصهار الاجتماعي في مجتماعته المحلية، في المدن والأرياف، آخذين بعين الاعتبار الإعداد الكبيرة من الشيعة العرب الذين وفدوا إلى البحرين، من القطيف والمحمرة وجنوب العراق، خلال ستون عاماً الأخير من القرن العشرين. ظل الإنتماء الأبرز لهذا المكون للحضارة العربية وللثقافة العربية الأم، وكان يقود هذا الإنتماء ويكرسه نخب «بحارنة المنامة» من التجار والأعيان ومن المثقفين والتكنوقراط ممن تلقوا تعليمهم الحديث في البحرين وخارجها.
وامتازت هذه النخب بعمق إنتمائها العربي، بل بانخراطها في العمل السياسي ذو الطابع القومي العربي. إن إلقاء نظرة على أسماء بعض من قيادات الحركات السياسية لكفيل بتأكيد هذه الخلاصة التاريخية، لكن ثم ماذا حدث؟
تعرض هذا المكون الاجتماعي إلى ما يشبه الانقلاب الاجتماعي على نخبه، فقد ترتب على قيام الثورة في إيران في نوفمبر 1979م، بالاضافة إلى إنحسار المد القومي العربي، إلى ما يشبه الإطاحة بالنخبة القائدة الحضرية، وإحلال أخرى دينية تنتمي إلى الإرياف. وإستطاعت قيادة الثورة الإيرانية أن تستوعب هذه النخبة الدينية القائدة للمكون الاجتماعي الشيعي العربي ضمن مشروعها لتصدير الثورة الاسلامية ومنظومتها المتمثلة في إحياء الصفوية ونظام ولاية الفقيه، بديلاً عن المذهب الجعفري السائد بين الشيعة العرب وكذلك بمدرسته الفقهية «الإخبارية». وهكذا أخذت تبرز بين صفوف هذا المكون الاجتماعي البحريني حركات وتنظيمات سياسية أخذت تتولى العمل إلى جانب المؤسسات الدينية التقليدية، كالمآتم والحوزات، على تعميق الفجوة بين المكون الحضاري العربي في الخليج والجزيرة العربية كهوية وإنتماء، واللحاق المتسارع بمشروعات الإنتماء المذهبي الجديد العابر للأوطان والمتجسد هذه المرة في إيران، حيث يقيم الولي الفقيه، وفي المرجعيات الدينية في العراق؛ نلحظ أن كل تلك المرجعيات العابرة للأوطان قد أضفت على نفسها، أو أضفي عليها، هالة من القدسية المبالغة تصل أحياناً إلى درجة الألوهية. ما أثر كل ذلك على هذا المكون الاجتماعي الذي نتحدث عنه؟
لقد جرى إحلال إنتماء آخر وهوية جديدة ومغايرة تتمثل في الإنتماء للعقيدة المذهبية أولاً، ثم الإنتماء للوطن ثانياً أو ربما ثالثاً. إن هذه الحالة المستجدة وضعت هذا المكون الاجتماعي الشيعي العربي في أزمة هوية عميقة، بالرغم من نداءات وإستغاثات بعض رجال الدين الشيعة من خطورة هذه الحالة، لذا فليس من المستغرب أن نسمع أو نقراء عن حالة الإختطاف التي تعيشها الطائفة الشيعية في البحرين وغيرها، والتي أصبح يعاني منها العديد من إبنائها ومثقفيها، بل أصبحت الحالة الراهنة تهدد حاضرهم ومستقبلهم الوجودي. لنقراء ما يقوله أحد أبناء هذا المكون عن ما آلت إليه حال هذا المكون من جراء حالة الاختطاف هذه، يقول الكاتب حسن عبدالله المدني: «تلونت الواجهات السياسية للعديد من المآتم بألوان الأحزاب، وكان العنوان الأبرز صور الزعامات الدينية السياسية البحرينية والإيرانية والعراقية واللبنانية التي تدل على التوجه السياسي للقائمين على تلك المآتم ومرتاديها، وإزدادت تلك الحرب ضراوة في عقد التسعينيات من القرن الماضي بني المهيمنين على المآتم التي تعد بالنسبة إليهم غنائم سياسية وبين المعارضين لتسييس هذه المؤسسة في الأصل».(1)
جلياً لنا إن الأساليب المتنوعة من الترغيب والتهديد والإرهاب التي مارستها النخب الدينية والسياسية الجديدة، التي تولت زمام قيادة هذا المكون الاجتماعي، منذ الثورة الإيرانية، قد عملت على وضع هذا المكون في حالة من المظلومية الإسطورية التي لا دخل للتاريخ والحضارة العربية المعاصرة أية مسؤلية، وقد عمل كهنة الثورة الإيرانية على صناعة أسطورة «آل البيت» وذلك لمحاولة خلق مساحة مشتركة من المظلومية الفارسية التي سوغت تاريخياً لنشأة وتأسيس التشييع الصفوي ومنظومة ولاية الفقيه.
إن حالة الإختطاف التي يعيشها هذا المكون الاجتماعي، المؤدية إلى محاولة إبعاده عن إنتمائه وهويته العربية، وعن تأصيل إنتمائه الوطني وحقه الأصيل في المواطنة الحقة، قد ترتب عنها خسارة هذا المكون لزعاماته ونخبه المتعلمة، القومية والعلمانية منها، والتي كان لعدد غير قليل منها شرف المساهمة في بناء الدولة الحديثة منذ بدايات القرن العشرين.
ومن مظاهر خطورة هذا الاختطاف، وغياب النخب المدنية المتعلمة، أن تم الاستحواذ على الشارع السياسي الشيعي وعلى العوام، في القري قبل المدن، والزج بهم في مشروعات متتالية من المواجهة مع الدولة، من جهة، ومع بقية المكونات الاجتماعية، من جهة أخرى.
وكانت كثيراً من تلك المواجهات التي حمل بعضها الطابع السياسي التأزيمي والآخر الأميل إلى العنف وإرهاب الشوارع، تنفيدا لمسلسل إنهاك الدولة تدريجيا حتى يدب فيها الوهن ويستشري الفساد في مؤسساتها، وبالتالي يسهل الإنقضاض عليها في مرحلة لاحقة، تطبيقاً لمشروعات مشابهة في مجتمعات عربية أخرى.
وليس أبلغ اليوم إلى ما آلت إليه حالة هذا المكون الاجتماعي خلال «محنة فبراير»، فقد زُج هذا المكون زجاً قسرياً في هذه المحنة بعد أن تم إستلابه من قبل نخبه الجديدة التي وضعت إنتمائها المذهبي بديلاً عن إنتمائها الوطني، وهكذا وجد الفرد في هذا المكون نفسه أمام جدار المكونات الاجتماعية الأخرى وهو في حالة من الصدمة: هل يواصل إنعزاله في حالة من المظلومية الأسطورية المُكرسة للإنتماء المذهبي على حساب المواطنة الحقة والإنتماء الوطني؟ إن أمام هذا المكون الاجتماعي حاجة ملحة، لاتختلف عن مكونات اجتماعية شيعية عربية مشابهة، للقيام بالاندماج الحضاري العربي التام، والابتعاد عن القوى والدول المعادية للأمة العربية، والقائمة على كراهية العرب وإزدرائهم عنصرياً، خاصة الدول الثيوقراطية مثل: إيران وإسرائيل.
المكون الاجتماعي الثالث:
للننتقل الآن إلى المكون الاجتماعي الثالث للمجتمـع البحريني، ونعني به هنا تحديداً «المكون الشيعي المنحــدر من أصــول فــارسية»، والمتعـارف عليه محلياً بـ «العجم». بخلاف بقية المكونات الأخرى يمتاز هذا المكون بوجود هوية إثنية جامعة له، وإن كانت شكلية الطابع، وهو الإنتماء إلى إجداد وأسلاف إنحدورا من مناطق متفرقة من إيران.
أما على أرض الواقع فيمتاز هذا المكون بتنوع شديد وتشرذم، نظراً للخلفيات الطبقية والتمايزات القرابية والإثنية الطابع، مما جعل هذا المكون الإقل إنصهاراً بين مكوناته الداخلية. لعبت الخلفية الإثنية والمذهبية لهذا المكون دوراً في جعل الأجيال الأولى من المهاجرين إقل إنصهاراً في المكون الاجتماعي العام، ومن المسببات التاريخية لعدم الإندماج التام: طبيعة العلاقة الموتورة والعدائية بين بلد المهجر، أي البحرين بصفتها وطناً جديداً، وبين بلد المنشأ، أي إيران بصفتها الوطن القديم.
لقد انعكست السياسيات العدائية والتوسعية الطابع لمختلف الحكومات التي تناوبت على حكم إيران في جعل هذا المكون الاجتماعي في البحرين يعيش حالة من الريبة، وذلك في ضوء حالة العداء القائمة بين الوطن الجديد والوطن القديم، وليس بخاف على أي دارس للتاريخ ما سببته الحماقة والرعونة السياسية من مشكلات متعدد لنظام الحكم في إيران، منذ تأسيس الدولة الصفوية في عهدالشاة إسماعيل بين حيدر الصفوي في بداية القرن السادس عشر، إنتهاءً بمشكلات النظام الحالي للملالي والكهنة.
وهكذا بعد عقود من الحروب الخاسرة مع دول الجوار مثل العثمانيين/الأتراك والأفغان خلال القرون الماضية، مروراً بعصر الإطماع والتطلاعات التوسعية خلا الحكم الملكي الشاهنشاهي البهلوي في القرن العشرين، وصولاً إلى الأطماع والتطلعات الجديدة التي تم تغليفها بلباس الثورة الإسلامية عبر مشروعات تصدير نموذج الثورة الإسلامية في إيران إلى الدول العربية والإسلامية، خاصة إلى تلك الدول التي يوجد بين مواطينها تجمعات سكانية من الشيعة.
ما علاقة كل هذه الخلفية التاريخية بطبيعة المشكلات الإندماجية للتكوين الاجتماعي الثالث؟
لقد إختار أعيان ووجهاء الأجيال الأولى من هذا المكون، وفي ضوء هذه المشكلات التاريخية، سياسية الإنغلاق والعزلة وبالتالي الابتعاد عن الشأن العام المحلي وذلك إتقاءً للشر. ومع مرور الوقت لعب هذا الموقف دوراً في تكريس الإنغلاق الاجتماعي والثقافي للمجتمعات المحلية لهذا المكون، مما أسهم تاريخياً في إبطاء عملية الإندماج في محيط الثقافة العربية العامة للوطن الجديد، فأصبح هذا المكون يعاني من إنشطار في وجدانه الثقافي وفي إنتمائه وهويته الثقافية، وإنشطاراً لاحقاً في شعوره بالمواطنة المشروخة.
وبالنظر للحالة التاريخية والاجتماعية التي وجد هذا المكون الاجتماعي نفسه عليها، أصبحت حالة الإزدواجية والإنشطار في الهوية والإنتماء تورث من جيل إلى آخر، هذا على الرغم من إنخراط الأجيال اللاحقة في برامج ومشروعات التعليم التي ترعاها الدولة، وإلتحاقهم بوظائف في مؤسسات عامة وخاصة. وبالرغم من كل ذلك ظل قطاع كبير من أبناء هذا المكون بعيداً، من الناحية الوجدانية، عن المكونات الروحية والثقافية للحضارة العربية التي ينتمي إليها وطنه.
ولعل من علامات هذا لإنغلاق والتقوقع على ثقافة و هوية الأباء والاجداد: إستمرار تفضيل أجيال متفرقة للحديث بالفارسية ولهجاتها المتنوعة، عوضاً عن التحدث بالعربية، وكذلك حالة القطيعة مع فنون الموسيقى والغناء العربي بصفة عامة، والمحلي بصفة خاصة، الأمر الذي ترتب عليه على سبيل المثال حالة من عدم الإنتماء للموسيقى والغناء العربي المحلي، بل تصل أحياناً إلى درجة النفور منه.
ومما ضاعف هذه الحالة الإنغلاقية الناتجة عن التردد وعدم والإندماج، عدم تشجيع الأبناء على الإنخراط في هذه الفنون على مستوى الممارسة والإبداع، لذا فأن الدارس للمجتمع والثقافة في البحرين سيلاحظ عدم وجود فنانين ومطربين يمتهنون ممارسة هذه الفنون، سواء بين المكون الاجتماعي الشيعي العربي بصفة عامة، أوالمكون الشيعي من ذوي الأصول الفارسية، بصفة خاصة.
سوف يكون أمراً غير منصفاً، بل غير موضوعياً، إذ لم يُأخذ بعين الاعتبار في هذا التعميم والإنطباع العام وجود بعض الحالات الإستثنائية لأبناء هذا المكون، أو ربما حتى جهود جماعية أو فردية للخروج من قيد هذا الإنعزال والتقوقع الاجتماعي والثقافي، خاصة وإن المجتمع البحريني يخلو تاريخه من إحتقانات وصراعات عرقية وطائفية مريرة كتلك التي مرت بها بعض المجتمعات في العالم، بل تسود المجتمع البحريني علاقات ودية بين مختلف المكونات الاجتماعية، ماضياً وحاضراً. على أن تسليط الضوء هنا على مشكلات هذا المكون الاجتماعي الأخير، بهذا القدر من التفصيل، يستهدف البحث عن ما يعانيه هذا المكون من مشكلات في الإنتماء والهوية، وبالتالي إنعكاسها على ممارسته للمواطنة الحقة. وسنلاحظ إنعكاس هذه المشكلات سلباً على إنجرار فئات من هذا المكون للتخندق المذهبي مع الحركة السياسية الشيعية بقيادة النخبة الدينية الجديدة، المروجة لوطن جديد يستلهم نموذجه من النموذج الإيراني للحكم الثيوقراطي القائم على ولاية الفقيه. سوف نلاحظ أيضاً إن عزلة وتقوقع هذا المكون الاجتماعي الشيعي، ذوي الأصول الفارسية، وإبتعاده عن الثقافة العربية ومكوناتها وإعلائه من القيمة الاجتماعية والروحية للثقافة الفارسية، قد أسهم عبر الأجيال المتفرقة في جعل هذا المكون يلتقي تاريخياً مع المكون الاجتماعي الآخر، أي الشيعي العربي، والسير خلف مشروعات النخبة الدينية الجديدة التي جعلت من النظام السياسي والديني القائم علي أسس مذهبية متمثلة في نظام ولاية الفقيه، ملهماً روحياً ونموذجاً يحتذى به، بل العمل على النضال من أجل تحقيقه على أرض الواقع.
وهكذا، كما جرى الإنقلاب على النخب التقليدية في أوساط المكون الشيعي العربي، جرى أيضاً الإنقلاب في هذا المكون الاجتماعي. فاستولت نفس النخبة الدينية الشيعية الـجديدة في البحـرين من التي أفـرزها النظــام الكهنـوتي في إيران علــى زمــام الأمـور في هذا المكون، هذا على الرغم من مشـاعر العـداء والإزدراء المتبـادل بين مــا يسمــى محــلياً بـ «البحارنة» و«العجم» في البحرين، وجرى تكريس الكهنوت الديني الصفوي، العابر للأوطان والأثنيات، في صفوف كلا المكونين عبر منظومة الاعتقاد بالولي الفقيه والمُقلد، وهكذا تم ربط أبناء هذا المكونات الاجتماعية بشبكة من المُقلدين تنتهي بتراتبية هرمية ينتهي رأسها عند الولي الفقيه.
مقاومة الطغيان الديني:
جديراً بنا ونحن نستعرض هذه الجذور الاجتماعية والتاريخية للمكونات الاجتماعية للمجتمع البحريني المعاصر، أن نتوقف قليلاً أمام عمليات المقاومة التي أبداها ولايزال أبناء المكونات الاجتماعية الشيعية البحرينية من «البحارنة» و«العجم»، ضد الهيمنة وسياسات السيطرة التي مارسها الكهنوت الإيراني، ولا يزال، عبر نخبه الدينية الجديدة من التي عمل على تأسيسها ورعايتها عبر نظام الحوزات الدينية في إيران وخارجها. لقد تفاوتت أشكال المقاومة، فقد تصدت بعض العوائل البحرينية من الشيعة العرب ضد محاولات الهيمنة على المآتم الحسينية التي عملت على تشييدها من عقود عديدة، كعائلة العريض، وبن رجب، والمديفع، والعصفور، وغيرها العوائل الشيعية من أعيان المنامة.
كما أخذت المقاومة أشكال أخرى من التصدي كالمقاومة الدينية، وقد تجلت تلك المقاومة في تصدي المدرسة «الأخبارية»، السائدة تقليدياً بين الشيعة العرب في شرق الجزيرة العربية، لهيمنة المدرسة «الأصولية»، ذات النفوذ الإيراني والمبنية على مبدأ الاعتقاد بولاية الفقيه باعتبارها ركناً أساساً من أركان المذهب الإثني عشري.
نذكر من هذه التجارب موقف فقهاء المدرسة الإخبارية من علماء وفقهاء المدرسة الجعفرية في البحرين سواء من العوائل المعروفة مثل رجال الدين من عائلة العصفور والمبارك، كما نذكر في هذا المقام الدور البارز الذي لعبه الشيخ سليمان المدني، وتجربة الجمعية التي كان يترأسها «جمعية الرابطة الإسلامي»، فقد إستلهمت هذه التجارب الدور الذي لعبته شخصيات دينية شيعية بارزة، كبعض الشخصيات اللبنانية: مثل الشيخ محسن الأمين، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ علي الأمين، وربما شخصيات دينية أخرى في العراق وإيران.
كل ذلك في محاولة منها للتصدي للهيمنة والتلسط الديني المركزي الذي قاد إلى إستكمال تأسيس تراتبية دينية شيعية في البحرين عبر هرامها الذي يقف على رأسه الولي الفقيه، ثم تليه جماعات سياسية ودينية، قد تتفاوت من حيث حجمها وتشددها الديني والسياسي، لكن الملاحظ أن جميعها يدور في فلك الملالي والكهنوت الإيراني المكرس للتشيع الصفوي عبر منظومة الولي الفقيه.
نورد هنا شهادة الكاتب حسن عبدالله المدني، وهو بالمناسبة إبن المرحوم عبدالله المدني شقيق المرحوم الشيخ سليمان المدني، كما وردت في مقالته السابق ذكرها، حيث يدون مرارة تلك التجربة قائلا: «بلغ هذا الصراع ذروته بحرق «مأتم القائم» في إسكان جدحفص بسبب رفض إدارته تسليمه إلى الفئة التي كانت تتسيد الشارع الشيعي في ذلك العقد، وهي حادثة غريبة على المجتمع البحريني ورغم غرابتها لم يدنها من الشيعة إلا جماعة الشيخ سليمان المدني رحمة الله بالإضافة إلى مجموعة من شيوخ الدين السنة»؛ ويستطرد قائلاً في نفس المقالة: «لم يقتصر إستلاب المآتم واختطافه على الواجهات السياسية الواضحة التي أصبحت مثل واجهات الأحزاب السياسية، بل تم تجيير المنبر الحسيني للترويج للجماعات السياسية في الداخل والخارج، والشحن ضد الدولة، وضد الرموز الدينية المستقلة».
للننتقل الآن إلى المكون الاجتماعي الشيعي الآخر، أي «العجم»، لنرى تجربة هذا المكون مع هذا الطغيان والتسلط الديني، لقد ظهرت أشكال متفاوتة من المقاومة لنفوذ الهيمنة والتسلط الديني الذي أصبحت تقوده الزعامات والنخب الدينية الجديدة، وذلك بعد إزاحتها للوجهاء والأعيان «العجم» من النخبة التقليدية.
كان من أشكال تلك المقاومة في مراحلها المبكرة، تصدي الوجيه «كاظم حسين بوشهري» وهو المعروف آنذاك بكونه «القائم على المآتم» لمحاولات الحركة «الشيرازية» بقيادة «السيد هادي المدرسي»، في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، للسيطرة على «مأتم العجم الكبير» واستخدامه كساحة للنشاط الديني السياسي لحركته، مما حدى بالوجيه «كاظم حسين بوشهري» إلى التصدي لهادي المدرسي وحركته، مؤكداً على أن المأتم مكان دين، وهو حد قوله «المأتم مأتم للحسين»، وليس «مأتم للسياسة».
وواصل «مأتم العجم الكبير» تصديه لتلك الهيمنة بأن قام في عام 1981م بإزالة جميع صور الزعامات الدينية والسياسية الإيرانية التي حاولت الحركة «الشيرازية» وضعها على جدران المأتم الداخلية.
حفلت العقود الماضية أيضاً بمحاولات مشابهة، تفاوتت من حيث النجاح والفشل، قام بها جماعات وأفراد من مآتم أخرى تابعة للـ «العجم»، سواء في المنامة أو المحرق، للتصدي لمحاولات الطغيان والهيمنة الدينية التي أخذت تشرع في تنفيذها النخب الدينية الجديدة.
كما لا يفوتنا أن نسجل ما شهدته البحرين أيضاً من مواقف صريحة عبرت عن نفسها من خلال مقاطعة وعزوف العوائل المعروفة من «العجم» بولائها التقليدي للعائلة الحاكمة ونظام الحاكم، لكل النشاطات والفعاليات التي كانت تقوم بها الجمعيات الدينية والسياسية الشيعية الواقعة تحت هيمنة النخب الدينية الجديدة.
لقد استخدمت النخبة الدينية الجديدة مختلف أساليب الترهيب والترغيب ضد كل الجماعات الدينية الشيعية في البحرين ممن قاوموا مشاريع الاستحواذ على الاعتقاد الديني، وهكذا بينما شهدت الأوساط الشيعية في البحرين تراجعاً للاتجاهات المعتدلة والوسطية، والمبنية أساساً على جذور الانتماء العربي للحضارة الأم وللهوية العربية الخليجية بعمقها الاستراتيجي المتمثل في الجزيرة العربية، تنامياً للاتجاهات المتشددة دينياً وسياسياً والقائمة على تكريس هيمنة وتسلط مرجعية شيعية واحدة مترتبطة مباشرة برأس السلطة الإيرانية، الولي الفقيه.
أي انتماء ومواطنة نريد؟
السؤال الآن، ماذا بعد أن حاولنا التعرف على الجذور الاجتماعية للأزمة التي تعيشها بعض المكونات الاجتماعية في البحرين في انتمائها وهويتها، وما يترتب عليها من ممارسات يسودها التخبط على صعيد ممارسة حقوق المواطنة؟ لعل من الإشكاليات التي تعيشها البحرين ما هو مُصدّر إليها من الخارج، تتمثل هنا في أطماع وعقائد تقع ضمن مسميات تصدير الثورة الإسلامية، وهي من الأمور التي تعاني منها سلباً البحرين وغيرها من المجتمعات التي تعمل «إيران الملالي» على تصدير مشروعات الثورة الإسلامية لها. لذا وفي ضوء هذه الحالة فإن هناك حلولاً وطنية الطابع، وأخرى إقليمية وثالثة دولية، وهي بمجملها تهدف للحد من الأخطار التي تسببها الحكومة الإيرانية للمجتمع البحريني ولغيره من المجتمعات الخليجية والعربية.
أما على صعيد المكونات الاجتماعية البحرينية، خاصة المكونات الشيعية، فإنه آن الأوان أن تعمل هذه المكونات، وعبر نخبها المتعلمة، على تلمس وإدراك ما يشكله العمق العربي والآخر الاستراتيجي المتمثل في دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية من أهمية مصيرية وحيوية في الجغرافيا السياسية والتاريخية للبحرين. إن إدراك هذه الحقيقة يستتبع الوعي بحقيقة أخرى وهو أن البحرين تنتمي للمجتمع والثقافة العربية بحكم الهوية والانتماء والتاريخ، وهي من الثوابت والمبادئ التي نص عليها الدستور المعمول به في مملكة البحرين، لذا فإن على المكونات الاجتماعية البحرينية أن تدرك أن الانتماء العربي والهوية العربية هما الأسسان الصلبتان اللتان تقومان عليها الهوية البحرينية، المستمدة جذورها من هويتها الخليجية الجامعة. وعليه فإن على أبناء النخب المتعلمة، للمكونات الاجتماعية التي جرى محاولة جرفها عن الحالة الطبيعية لثوابت المجتمع العربي الخليجي التي وجدت عليه البحرين، أن تعمل جاهدة للتحرر من أسر مشروعات الهيمنة والتسلط الذي يحاول نظام الملالي والكهنوت في إيران فرضه عليهم، سواء من خلال النخب الدينية البحرينية أو مشروعات تصدير الثورة الإسلامية.
إن الأمة العربية التي ينتمي إليها المجتمع البحريني تتطلع بجميع مكوناته الاجتماعية الى استمرار رفد الحضارة العربية العريقة لهذه الأمة بالنتاج الحضاري والإبداعي العربي للإنسان البحريني علماً وأدباً وفكراً وفناً وثقافة، تماماً كما عهدته منه أمته منذ أقدم العصور، فالبحرين لن تكون إلا بلداً عربياً وخليجياً، لذا فإن من قَبِل العيش على أرضها لن يجد أمامه سوى القبول بتلك الثوابت التي ستظل تشكل المعالم الأساسية للشخصية البحرينية، وأنها الشرط الأساس للمواطنة الحقة فيها.
مقترحات أمام قطار الإصلاح
لعل من حسنات «محنة فبراير» هي حالة المراجعة مع النفس التي يفترض أن تقوم بها جميع المكونات الاجتماعية، بهدف تقييم دورها في مسيرة بناء الدولة الحديثة بصفة عامة، وفي مسيرة الإصلاح السياسي والديمقراطي الذي دشنه عاهل البلاد المفدى منذ ما يقارب العقد من الزمان بصفة عامة. إن «محنة فبراير» لم تعزز فقط صحة مسيرة الديمقراطية القائمة على مبادئ العدل والحرية والمساواة، بل أنه لا سبيل لتحقيق كل ذلك والمحافظة على مكتسبات الشعب دون وجود نظام أمني صارم يحمي المجتمع والدولة معاً. إن السنوات العشر من عمر الديمقراطية والإصلاح السياسي، أظهرت بعضًا من الاخفاقات والعيوب في التطبيق، مما يستدعي مراجعتها والتدخل السريع نحو إصلاحها، ولعل من بينها ما كان سبباً، بل مبرراً لاستمرار المكونات الاجتماعية ونخبها في الخروج عن ثوابت المجتمع البحريني، وعن المقومات الرئيسية التي أقرها الشعب البحريني بجميع مكوناته سواء في ميثاق العمل الوطني أو الدستور، ويجدر بنا أن نورد عدداً من تلك المراجعات والوقفات التاريخية الموجبة:
أولاً: حاجة الشعب البحريني بجميع مكوناته، للاستمرار قدماً في العيش المشترك في ضوء ميثاق العمل الوطني والدستور القائم لعدة عقود قادمة حتى تتكرس عبر الممارسة بين أجياله المتعاقبة قيم الحرية والعدل والمساواة، وكذلك الممارسة الحقة للمواطنة، كما إن هذه الحالة لا يمكن بلوغها والإطمئنان لوجودها دون وجود نظام أمني صارم يحمي مكتسبات المجتمع ويوفر الأمن والحياة الحرة والكريمة لجميع مكونات المجتمع.
ثانياً: العمل على إعادة النظر في قانون الجمعيات السياسية القائم، وذلك في ضوء إخفاقات وسلبيات التطبيق خلال الأعوام العشر الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بالسماح لجمعيات سياسية قد تم تأسيسها على أسس دينية أو مذهبية، وعليه يجب أن يصار إلى تعديل القانون الحالي، أو ربما إيجاد تشريع جديد ينهي الحالة السلبية التي انتهينا إليها، ويمنع بموجب هذا التشريع الجمع بين العمل السياسي والديني.
ثالثاً: اتخاذ إجراءات عاجلة نحو إيقاف كل أشكال الممارسات المخالفة للقوانين والأنظمة المعنية بمؤسسات الرأي العام الخاصة، والتي أدت إلى إنشاء مؤسسات صحفية مبنية على أسس دينية أو مذهبية، والعمل على وضع تشريعات صارمة تجرم تلك الممارسات.
رابعاً: مراجعة مختلف التشريعات المتعلقة بالمؤسسات الدينية، بحيث تخضع هذه المؤسسات لضوابط قانونية صريحة وواضحة فيما يتعلق بأعدادها ومناطق تواجدها، بل ونطاق وأماكن ممارسة العبادات والشعائر الدينية. ولعل المجال الأبرز الذي يجب أن تستمر المراقبة والتدقيق فيه هو مضمون الخطاب الديني ومدى إلتزامه بثوابت المجتمع وبالتشريعات والمعمول بها في المملكة، والنأي بتلك الخطابات عن الصراعات أو عن التدخل السافر في الحياة العامة والحريات المدنية للمواطنين والمقيمين والتي تمارس وفق الأنظمة والقوانين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق