الأحد، 12 ديسمبر 2010

رحلة من بومباي إلى البصرة من 1916م – 1917م لكرستجي

" جزر البحرين
تعتبر الرحلة من دبي إلى البحرين أطول مسافة تفصل بين مينائين في الخليج ، وقد قطعت الباخرة "زياني" هذه المسافة في غضون ثلاثين ساعة . وكان الطقس غائماً بينما هبت الريح المعاكسة الباردة القوية طوال النهار ، وقد تساقط رذاذ من المطر عند وصولنا إلى وجهتنا . وفي اليوم التالي لمغادرتنا دبي ما بين الساعة الثانية إلى الثالثة بعد الظهر ترآى لنا إلى جانبنا الأيسر ساحل البحرين بسلسلته الطويلة من الحواجز المرجانية المنخفضة وجزره الممتدة على مدى بضعة أميال نحو مدخل المرفأ أو المرسى بين عوامتين طافيتين مخصصتين لهداية السفن ، أحدهما يعلوها مصباح أحمر يرسل نوراً بعد حلول الظلام .
وفي الساعة 5.30 بعد الظهر ألقت باخرتنا مراسيها في مياه منخفضة على بعد ما يقارب ثلاثة أميال قبالة أكبر جزيرتين في أرخبيل البحرين . ومن الأفضل المجيء إلى هنا قبل الغروب لأن الاقتراب من المرفأ يتطلب قيادة حذرة جداً للدفة بسبب وجود سلسلة طويلة من الحواجز والصخور المرجانية ، والمياه الضحلة والتيارات المتقلبة .
وحال اقترابنا من هذا الموضع توقف القبطان عن العمل ، كما توقف الرجال المكلفين بسبر غور البحر عن طريق اسقاط المسبار عن العمل أيضاً . وقد لزمت منصة الربان منذ اللحظة التي ترآت لنا فيها اليابسة حتى اللحظة التي اطلقت فيها الإشارة النهائية لايقاف الباخرة وهوت على إثرها المراسي مصلصلة تشق طريقها إلى القاع . وعندما اقتربنا من الساحل الممتد إلى يسارنا بدا لنا منخفضاً تكسوه العديد من بساتين النخيل الكثيفة والمتفرقة حيث يشاهد من بينها بيوت القرويين ، وقد أفصح هدير الأمواج المتكسرة على الصخر وارتطام الأمواج بالشاطئ عن وجود العديد من الجزر الصغيرة ، والحواجز المرجانية ، والصخور المغمورة في الماء ، مما يجعل الإبحار بينها في الليل شديد الخطورة .
وتتجمع حول أرخبيل البحرين سبع جزر متقاربة واقعة بين رأسين بريين أو لسانين بارزين عن اليابسة مما يشكل مدخلاً إلى خليج واسع عميق ذو ثلاث زوايا ، ومن على ساحل الأحساء المجاور الواقع في الشمال الشرقي لشبه الجزيرة العربية مما يمنحها اسمها الشائع والذي هو عبارة عن الصيغة العربية المزدوجة للفظة البحرين وتعني بحران .
وتعتبر هذه الصيغة في تسمية الأماكن والمواقع ميزة عربية إلى حد ما ، فعلى سبيل المثال اسم بلاد ما بين النهرين هو التطابق الدقيق للاسم العربي الذي أطلق على تلك البلاد الواسعة ، فكلمة النهرين تعني ما بين المائين أو الرافدين ، وهما دجلة والفرات . ومن بين هذه الجزر السبع أو السباعية كما قد يطلق عليها تقليدياً هذا الاسم الذي استخدمه بطليموس وهو الاسم المشار إليه في خريطة مكتب شركة الملاحة بمدينة بومباي فإن أكبر هذه الجزر هي تلك الجزيرة التي تبلغ حوالي 27 ميلاً طولاً ولها عرض واسع والتي تقع فيها مدينة المنامة العاصمة التجارية للبلاد . وإلى جوار هذه الجزيرة تقع جزيرة أخرى وهي المحرق ويفصلهما ذراع مائي ضحل أو قناة بحرية صغيرة تجري بينهما ، وتتميز جزيرة المحرق عن شقيقتها الجزيرة الأولى بكونها مقراً لاقائمة الشيخ وأفراد عائلته والوجهاء والبحرينيين الميسورين الحال . ولا تمثل الجزر الأخرى المتجمعة حول هاتين الجزيرتين سوى صخور أشبه بنقاط على صفحة ماء البحر ، يقطنها القليل من الصيادين الفقراء ، وجامعي بلح البحر والطحالب البحرية الصالحة للأكل ، كما أنها تمثل موطناً لأعداد هائلة لا تحصى من طيور النورس البحرية ، وطيور الغاق ، والطيور الغاطسة صائدة الثعابين ، وطيور مائية أخرى . وقد توقفت باخرتنا قبالة مدينتي المنامة والمحرق حيث بدا منظرهما من بعيد من فوق ظهر الباخرة جميلاً للغاية . كما بدت واضحة للعيان العديد من المباني البيضاء العالية من بينها قصور الشيخ ، ومقر المعتمدية الذي يرفرف عليه العلم البريطاني ، ومنازل التجار الأثرياء ، واعمدة البرق واللاسلكي التي تم تركيبها مؤخراً .
وكان الطقس عاصفاً وغائماً في البحر بالأمس الأول وقد تحول إلى صاف وبهيج بمرفأ البحرين في المساء ، وبالرغم من أن تلك الليلة كانت حالكة السواد وباردة إلا أنه سرعان ما أصبح سطح السماء سميكاً مرصعاً بأغشية من الذهب البراق كما أنشد أوتغنى الشاعر العظيم ، لذا فإن التنزه على سطح الباخرة كان ممتعاً للغاية في تلك الأمسية ، كما تلألأت أنوار المدينة من بعيد .
ومن الواضح أن وكيل الشركة المالكة للباخرة في البحرين رجل أعمال حاذق ، إذا صعد مديره على متن الباخرة بمجرد أن أطلقت صفارتها إشارة الوصول رغم الظلام الدامس الذي أرخى سدوله حولها . وتبعه حالا وصول مراكب الصنادل إلى جانب الباخرة ، كما قام العمال بتفريغ الحمولة حتى ساعة متأخرة من الليل إذ أن الباخرة أحضرت معها إلى هذا المرفأ كمية كبيرة من الحمولة تزيد على 10.000 رزمة .
وفي الصباح الباكر من اليوم التالي جاء إلى الباخرة المسئول الصحي بالمرفأ وأنجز جميع الإجراءات المتعلقة بفحص أوراق الباخرة ، فهو يعتبر شخصية مهمة في حد ذاته ، إذ أنيطت به جميع المهام في مجال عمله ، فهو بمثابة المسئول الصحي بالمرفأ ، وهو الطبيب المعالج في دار المعتمدية البريطانية عند الضرورة ، وهو الطبيب الخاص للشيخ وعائلته الكبيرة العدد ، وهو مسئول عن نوع من العيادة المجانية إلا أنه يمارس العلاج الخاص أحياناً من أجل زيادة دخله ويحصل على مردود مادي مقابل قيامه بمعالجة عرب المدن الذين لديهم على أي حال استحياء ديني نحو الطب الغربي ولا يلجأون إليه إلا في حالة الضرورة القصوى.
فهذا الطبيب الشاب المتعدد المهام والذي قام بزيارة رسمية لباخرتنا ينتمي إلى طائفة "الخوجة" وقد تم نقله مؤخراً من مدينة " ريتنغاري" الهندية إلى هذه البقعة المنعزلة والمرهقة . وقد صعد على ظهر الباخرة وهو يرتدي معطفاً ثقيلاً واسعاً ، ويطوق عنقه لفاع عجيب من الصوف ، كما يلتف شال دافئ كالسحابة حول رأسه . وقد ارتعش وسعل معبراً عن عدم رضاه بوظيفته الجديدة . وبالنظر إلى الحال الذي يعيش فيه بحكم كونه رجل جديد في بقعة ليس له فيها صلة أو صديق ، كما أنه يجهل لغة البلاد ، ويقيم في موضع يخلو من كل أسباب الترفيه والتسلية والاستجمام ، كما يعج السكن بجميع أسباب الإزعاج ، فهو يستحق دون شك راتباً كبيراً بقدر كاف يرضيه ويعوضه عن ذلك الحال أودعنا نأمل أنه يحصل على مثل ذلك الراتب . وقد اعتبرنا من جانبنا أنا والقبطان " أكورجي " وجود الطبيب الجديد – وهو شاب قدير كفء – محل الطبيب السابق بمثابة مفاجأة مؤسفة . فقبل مجيء هذا الشاب إلى هنا كان يشغل منصب طبيب الشيخ شخص مجوسي يحمل درجة " إجازة في الطب والجراحة " من بومباي اسمه الدكتور " فردونجي بوميليه" وهو صديق حميم لنا ، وقد مكث في هذا الموضع خمس سنوات متواصلة عجيبة عند وصفها ، وقد غادر إلى بومباي دون علمنا قبل وصولنا إلى البحرين بثلاثة أيام فقط . وقد أصابنا إحباط شديد وشعرنا بالأسى نتيجة لذلك فقد كنا مرهقين من رتابة الطعام الذي كان يقدم إلينا في الباخرة ، إذ كان الطهاة المهرة في الباخرة "زياني" يقدمون طعاماً جديداً ووافراً إلا أنه يتكرر على نحو ثابت لا يتغير ، وكنا نتطلع بشغف لامتاع أنفسنا بوجبة طعام متقنة تعدها لنا زوجة الطبيب التي شاركت زوجها بشجاعة في منفاه طيلة هذه السنين في هذه البقعة النائية المنعزلة عن العالم ، فهي معروفة بمهارتها الفائقة في تحضير وجبات المطبخ المجوسي ، إنها حقاً وليمة وهمية جئنا من أجلها فكان علينا أن نتخم البطون الجائعة بتخيل تلك الوليمة الرائعة إلا أننا عوضنا جزئياً عن هذا الاحباط بوجبة غداء على الطريقة العربية سوف أصفها بعد قليل .
يعتبر شيخ البحرين شخصية مهمة جداً ويشتهر بكونه أثرى الحكام الذين يقتسمون فيما بينهم الشواطئ العربية للخليج . ويعتبر دخله كبيراً ، كما أن عوائده من الرسوم الجمركية وضرائب الغوص على اللؤلؤ ضخمة . وتعد البحرين مركزاً مهماً للتجارة ، وهي تتولى عملية عملياً زمام القيادة في الخليج نظراً للقيمة الاستراتيجية الكبيرة التي يتميز بها موقعها ، ويحكم الشيخ عدداً كبيراً من السكان ويتمتع بنفوذ كبير في إقليم الأحساء الواسع من البر الرئيسي . وهو ذو فائدة كبيرة للحكومة البريطانية ، وقد منح وسام زميل امبراطورية الهند من الدرجة الأولى وهو شديد الاعتزاز به . ومن أجل اسعاده فقد تم التلويح له دبلوماسياً بأنه سيحظى يوماً ما بلقب ملك وهو عضو في قبيلة آل خليفة ، وينحدر من سلسلة طويلة من السلاطين العرب الذين حكموا إقليم الأحساء الواسع . ومنذ عام 1622م جرت منازعات متتالية بين عرب الأحساء والفرس من أجل السيادة على البحرين التي كانت تقع تحت سيطرة هؤلاء أو أولئك بالتناوب . وأخيراً أزاح العرب الفرس عنها إلا أنهم بدورهم أزيحوا أو تم إخضاعهم من قبل الأتراك ، ما عدا البحرين فقد ظلت في أيدي العرب .
وفي الآونة الأخيرة وبالذات في عام 1875م أثار السادة حكام عمان وكذلك الأتراك بعض المشاكل وحاولوا الاستيلاء على البحرين إلا أن البريطانيين تدخلوا في النزاع ، حيث ظهرت فوراً بارجة بريطانية في الصورة . واضطر الأتراك إلى التراجع كما جرى إبعاد العديد من الشيوخ العرب إلى الهند ، وتم اختيار الحاكم الحالي ليجلس على سدة الحكم ، وتم تثبيته في مشيخته ليحكم هذه الجزر المهمة ، إذ أنه يحكمها تحت الحماية البريطانية ، وقد أصبحت البحرين مؤخراً مركزاً سياسياً بالغ الأهمية في الخليج حيث يقيم في المنامة بصفة دائمة وكيلاً سياسياً بريطانياً ، ونظراً للموقع الجغرافي الممتاز الذي تتمتع به جزر البحرين فإنه ينتظرها مستقبل باهر ، إذ أن بغداد والبصرة واقعتان الآن في أيدي البريطانيين ، ومن المؤكد أن الكويت القريبة منهما ستصبح خلال فترة قصيرة من الزمن نهاية الخط الجنوبي لسكة حديد وادي الفرات وبغداد.
كيف رسونا على شاطئ المنامة
وفي صبيحة اليوم التالي هبت ريح الشمال بقوة مرة أخرى ، فوجدت صنادل الحمولة صعوبة كبيرة في الاقتراب من الباخرة ، لذا لم يتم إنزال الجسر الخشبي خشية أن يتهشم . وكنت على أي حال متشوقاً للنزول إلى الشاطئ من أجل مشاهدة العديد من معالم مدينة عربية كالمنامة ، لذا فقد غادرنا الباخرة أنا والقبطان في الساعة العاشرة صباحاً . وقد نزل القبطان بخفة ورشاقة على السلم الخاص بالمرشد لكنني لم أستطع أن أفعل ذلك بسبب ساقي المصابة لذا قامت إحدى الروافع بالباخرة برفعي في سلة كبيرة ضخمة تستخدم عادة لتفريغ البضائع المهشمة ومن ثم إنزالي في قارب عريض أرسله وكيل الشركة إلينا لنقلنا إلى الشاطئ . ولقد طافت بمخيلتي في اللحظة التي كنت فيها معلقاً في زنبيل مصنوع من خوص النخيل المثنية شبيه بالسلة صورة رأيتها في إحدى مسرحيات "اريستوفان" عندما علق سقراط المسكين في سلة من أجل تسلية جمهور أثينا الوقح المولع بالمسرحيات . وبما أن التيار كان مواتياً والريح كانت تهب وراءنا فقد رفعنا الشراع الكبير للقارب واستمتعنا بقضاء أجمل رحلة قطعناها مبحرين نحو الشاطئ . وقد كان الطقس بارداً لذا كانت ملابسي الداخلية عبارة عن بدلة دافئة كنت ألبسها دائماً عندما كنت في لندن خلال الشتاء الماضي ، كما ارتديت معطفاً ثقيلاً ووضعت على رأسي قلنسوة صوف مما جعلني أشعر بالراحة ، كما تألقت شمس الصباح المشرقة في مشهد حافل بهيج وكانت مياه المرفأ الضحلة المليئة بالأعشاب الخضراء شفافة تماماً ، لذا كان بالإمكان رؤية الطحالب البحرية المتعددة الألوان والصخور المرجانية في القاع بوضوح تام ، بينما حلقت فوق رؤسنا ومن حولنا أسراب من طيور النورس البحرية ، حيث كانت تدور وتحوم في الهواء أو تنزلق بسرعة فوق سطح الأمواج الصافية نصف الشفافة التي كانت تتراقص وتتلألأ في ضوء الشمس الساطعة . وقد خلقت هذه المناظر ومناظر أخرى كمنظر السماء الجميلة المتألقة فوق رؤسنا . والبحارة العرب الذين يرتدون ملابس مثيرة للاستغراب ، والعديد من المراكب الشراعية المحلية التي تبحر بقوة الرياح أو بواسطة المجاديف ، والوسط الجديد المدهش ، مشهداً رائعاً ليس من السهولة بمكان نسيانه ، حيث "يلمع فوق مقلة العين" ، لذا فإن استرجاع هذا المشهد في الذاكرة يغمرني بفرحة عارمة لا تنقطع . وقد استغرقت مدة الإبحار إلى الشاطئ ثلاثة أرباع الساعة فقط ، فقد كانت حقاً رحلة قصيرة جداً . وقد نزلنا في غرفة رديئة البناء واقعة في واجهة مدينة المنامة . ويحصل شيخ البحرين على عوائد كبيرة من جمارك المرفأ ، وبإمكانه أن يوفر موضعاً للرسو أو أرصفة للمرفأ أكثر صلاحية للاستعمال من الموضع القائم . كما أن توفير رافعتين بخاريتين لأغراض تفريغ الحمولة وإنزالها سوف يؤدي إلى توفير الكثير من الوقت وتلافي حدوث مشاكل ومنازعات حول البضائع المهمشة وبالإمكان تغطية التكلفة من رسوم الرسو .
هناك شيء آخر إذا كان الشيخ يتمتع ببعد النظر فبإمكانه بل يتوجب عليه أن يعمل في سبيل تحسين الأحوال السائدة حالياً في هذا المكان وعند توفير زورقين بخاريين والعديد من مراكب القطر البخارية التي يمكن للشيخ أن يستثمرها على أساس تجاري ، فإن ذلك سيعود بفوائد عديدة على شحن وتفريغ الحمولة ، وعلى نقل الركاب ، كما سيوفر الكثير من الوقت ، ويسهم في تخفيف العديد من الصعوبات والعوائق ، ويضيف الكثير إلى دخل الشيخ . فقد كان مشهداً مليئاً بالضوضاء والفوضى والنشاط . فهنا يتم إنزال الركاب والبضائع معاً في حالة شديدة من الفوضى والبلبلة فيختلط الحابل بالنابل . ويقع مبنى الجمارك وهو بناء منخفض قائم وسط فناء واسع يحيط به سياج . على مرمى حجر من الوضع الذي يعج بالنشاط والحركة ، ويزدحم بالرجال والحمير وأصحابها من الصبيان الصغار وهم يمضون جيئة وذهاباً في حالة شديدة من الاستعجال والتدافع .
وتشتهر البحرين في جميع أنحاء الخليج بأنواع الحمير الجيدة ، وينجذب الغريب إليها منذ الوهلة الأولى وهي غالباً ما تكون ناصعة البياض ، ويوجد لدى العديد منها شعر عند العنق وأذيالها برتقالية اللون مصبوغة بالحناء . وهي ملفتة للنظر من حيث الحجم والسرعة والقوة والأعضاء الغليظة التي تفوق أجناسها في مناطق أخرى . ويمثل الحمار هنا كما في بقية أنحاء الخليج وسيلة عامة للنقل والتحميل وهو حيوان نافع مثله مثل الخنزير في أيرلندا يرد لصاحبه جميع نفقات تربيته وإطعامه . فالغياب التام لجميع أنواع المركبات المثيرة للضوضاء من حركة السير يمنح المرء القادم من بومباي الشعور بالسكينة والإحساس بالسلام . وقتني كل فرد هنا حماراً خاصاً به أو يستأجر له حماراً . ويعهد إلى هذا الحيوان المفيد المسالم والضروري بأداء كافة مهام النقل إلا إذا قررت بنفسك بالطبع أن تسير على قديمك . وتوضع فوق ظهر الحمار قطعة من الحصير أو وسادة خشنة تربط حول ظهره حيث تقوم مقام المقعد أو السرج . أما اللجام والركاب فيعتبران ضرباً من الترف لا ضرورة لهما . ويجري الصبي صاحب الحمار وبيده سوط إلى جانبه لكي يرشده إلى الطريق ، فإذا بدا من الحيوان جموحاً أمسكه الصبي من أذنيه لكي يكبح أي تصرف عابث يصدر عنه . ولا يجلس الراكب على ظهره منفرج الساقين بل يجلس وساقيه متدليتين في جانب أو آخر . فهذا هو أسلوب الركوب المتبع هناك . وهو يمشي بتمهل مما يجعل الراكب يشعر بالارتياح . وعندما يتحول الحمار إلى حامل للمتاع ، فهو يحمل على ظهره رزم البضائع أو قرب الماء أو الجرار التي تربط في كلا جانبيه كما يحمل مواد البناء وأكياس الرمل أو أي شيء آخر يتطلب النقل .
ويعتبر الحمار في البحرين نموذجاً لجميع أبناء جنسه في كل مكان ، فهو مطيع ، وسهل الانقياد يذعن لسوط سيده أو لصرخات أوامره ، وعندما يشعر بالرضا واعتدال المزاج يطلق نهيقاً صاخباً وذلك للتنفيس عن أحاسيسه ومشاعره أو لأداء التحية لأخ عابر محمل بالأثقال والذي يرد التحية بمثلها . وهو في الحقيقة والواقع جميل للغاية ويستحق مبلغاً كبيراً من المال .
ولم نشاهد أثناء وجودنا في البحرين أية خيول لكننا شاهدنا القليل من الإبل ، ومن المعروف أن الناس الميسوري الحال هنا يمتلكون العديد من الجياد . فالشيخ يمتلك مجموعة كبيرة من خيرة الجياد الأصيلة . وغالباً ما تربى الخيول في منطقة الأحساء الواقعة بالبر الرئيسي ، وتأتي هذه الخيول في المرتبة الثانية من حيث الجمال والسرعة وقوة التحمل بعد أمير فصيلة الأفراس وسيدها الحصان العربي في منطقة نجد الواقعة بالزاوية الشمالية الشرقية من شبه الجزيرة العربية . ويستخدم التجار بالطبع الجمال لأغراض النقل البري إلا أن الحمار متوفر في كل مكان وفي كل وقت وهو يخدم في المدينة وفي القرية على السواء .
وعندما يكون الحمار المطيع خالياً من الأحمال سواء من الأفراد أو المتاع يلقي الصبي صاحب الحمار بنفسه بخفة ورشاقة فوق ظهره أو يقفز من خلفه على ظهره كالبهلوان ، ويرجح قدميه فوقه أو يهرول قليلاً ، أو يترنم ، أو يمزح مع أترابه وزملائه من الأولاد ، وينادي الزبائن والركاب بروح مرحة سمحة داعياً لهم بالركوب على ظهر حماره لكي يأخذهم أينما يشاءون .
ويعتبر الحمار في البحرين نوعاً من المقتنيات الثمينة ، بينما لا تكلف إعالته شيئاً يذكر ، وينهمك الحمار في أوقات الفراغ في التقلب على ظهره أينما يجد نفسه قادراً على تنشيط بدنه ، أو يقف هادئاً في زوايا الطريق يقضم أو يمضغ برفق شظايا القش المتناثرة والعشب وبقايا البرسيم التي قد تقع بالصدفة في طريقه. وهو ليس بحاجة إلى سائس ، ويسير بدون نعل ، وأي شيء يأوي إليه سواء مسقوف أو غير مسقوف يمثل اسطبلاً له ، وأي بساط قديم أو فضلة من القماش تكفي لايوائه واسكانه . وهو على أهبة الاستعداد لالتهام أي شيء يقع في طريقه على شكل يرقة أو علف . وهو يستمتع بأكل فضالة التمر والنوى المسحوقة المخلوطة بالأسماك الجافة المهملة ، وينمو بقوة عندما تتاح له فرصة أكل حفنة من مثل هذه الوجبة الدسمة .
مدينة المنامة
من بين المدينتين التوأمين الرئيسيتين اللتين تتكون منهما البحرين فإن مدينة المنامة قد شيدت على امتداد ساحل المرفأ بأكثر من ميل واحد طولاً ومثله تقريباً في امتدادها إلى الداخل عرضاً ، وتتكدس في داخل هذه المنطقة أحياءها السكنية ومكاتبها وأسواقها الكبيرة . وهي المركز التجاري لكل هذه الجزر ، وجميع الأعمال والمعاملات التجارية تجري في هذه البقعة . كما يوجد فيها كبار التجار ، والوكالات التجارية ووكالات البواخر ، والقنصلية البريطانية ، وجميع المكاتب المختلفة ، والأسواق الكبيرة وجميع العاملين فيها بأجناسهم وأعمالهم المختلفة . وتبدو هذه البقعة كثيفة السكان بدرجة كبيرة . وتبدو أحياءها السكنية المتعددة ومستودعاتها متراصة بعضها بالآخر . وتقع في وسطها الطرق أو بالأحرى الممرات والأزقة الضيقة .
وجميع البيوت أو المباني هنا مطلية باللون الأبيض على نحو شائع ، وذلك لكي تعكس أشعة الشمس الحارة طيلة الشهور العديدة التي يصفو فيها الجو . وتتألف العديد من هذه البيوت طابقين إلا أنها جميعاً تتميز على نحو غريب بمظهرها الواهن المتصدع . وهي تبدو متفاوتة ومتنافرة وغير مستوية ولم يستخدم ثقل الرصاص الخاص بفحص الاستقامة أثناء بنائها على الإطلاق مما جعلها في حالة غير سليمة . وأتصور أن الجير غير معروف في هذه النواحي . أما الطوب فإن وجد فإنه رديء الصنع حيث يجفف تحت وهج أشعة الشمس بدلاً من نار الفرن .
وغالباً ما تتكون مواد البناء من كتل مختلطة من المواد البيضاء ومن الرمال ومن الصخور البحرية المستخرجة من المرفأ ومن الساحل . وتحاكي العديد من البيوت هنا نمط البناء الفارسي من حيث الأسطح المنبسطة المزينة بحواجز التفاريج المصنوعة من الجبس المزخرف بالنقوش المخرمة ، أو بحواجز الشرفات ، ومن حيث الشرفات المعلقة، والأروقة العمودية ، عند المداخل مع التظاهر بشيء من الفخامة فيها ، إضافة إلى النوافذ ذات المصاريع الخشبية المزخرفة بنقوش شبكية أو ذات الألواح المنزلقة مما يضفي عليها منظراً جميلاً . ومن المدهش أن هناك عدداً من هذه البيوت في حالة خربة منذ زمن طويل . وجميع الأعمال الخشبية فيها بدائية للغاية . وبالكاد ما يتلاءم باب أو نافذة مع إطارهما أو يتوافق أحد مصراعيهما مع ثنيته الأخرى بدون أن يترك فجوة أو شق أو خلخلة أو صدع في أعلى أو في أسفل أو فيما بينهما . ويبدو أن الدهان الزيتي لا وجود له هنا . وقلما يستخدم الصقل ما عدا في بعض المباني التي تتميز بشيء من الفخامة . وعوضاً عن إصلاح هذه العيوب العديدة فإن الفرد العربي أو الفارسي يتقبلها برباطة جأش وهدوء معللاً النفس ومواسياً لها بترديد تعبيره المألوف "لا بأس من ذلك ولا داع للقلق". وقد وجدت في بعض البيوت أبواباً ونوافذ تعلوها شبابيك مروحية نصف دائرية مكسوة بألواح من الزجاج الملون الأخضر والأزرق والأحمر والأصفر ، بينما توجد في معظم البيوت نوافذ ذات حواجز منخلية مثقبة أو مصاريع خشبية ترفع وتوصد ، وتضفي هذه الشبابيك المروحية الملونة على البيت حليته الوحيدة ، وتساعد على تخفيف حدة سطوع الشمس من خلال نفاذ أشعتها عبر الزجاج الملون فتنعكس تلك الألوان على الجدران البيضاء ، كما تساعد على تهوية الغرف بصورة رائعة . ويبدو أن القرميد أو البلاط لأي غرض كان لا وجود لهما هنا على الإطلاق . وجميع الأسطح هنا منبسطة لكن الأسطح التي اتيحت لي الفرصة بزيارتها والإطلاع عليها قد صممت بطريقة متفاوتة وغير مستوية مما يجعلها شبيهة بالمرتفعات والمنحدرات . ويبدو واضحاً أن ثقل الرصاص الذي يستخدمه البناءون لفحص الاستقامة وميزان المساح ومسحاج النجار هي أدوات نادرة الاستعمال في طرق وأساليب البناء العربي. وبسبب الأحوال المناخية السائدة في جميع أنحاء المنطقة الممتدة من نهاية الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط إلى بحر العرب فإن السطح المفتوح المنبسط هو النمط السائد في البناء منذ زمن بعيد ممعن في القدم . ويتألف السطح من غرفة نوم وغرفة جلوس ، أو فناء النزهة . وهو مكان ملائم لإعلان الأوامر الرسمية وإشهارها ونشر الأخبار وإشاعتها بين الناس . وغالباً ما يسمع صوت الواعظ من هناك ، ومن هنا جاء التعبير العام الشائع "إذهب وعظ من فوق سطح البيت" . وعادة ما يحمي السطح المنبسط جدار منخفض أو حاجز شرفة كالذي ورد ذكره منذ زمن سحيق يعود إلى أيام النبي موسى الذي أوصى قائلاً:"إذا بنيت بيتاً جديداً فاعمل حائطاً لسطحك" وبينما تتميز الغرف بالسعة والارتفاع في أفضل أنواع البيوت فإن السلالم تتميز بالخشونة بصورة استثنائية ، فهي عالية العتبات ومرهقة أثناء الصعود والهبوط ، وغالباً ما يتم تركيب أو بناء السلالم إلى جانب الجدار أو في إحدى الزوايا وذلك من أجل استغلال فسحات البيت استغلالاً حسناً إلا أنها ضيقة وملتوية وترتفع كل عتبة منها قدم ونصف القدم . ومن مميزات المساكن العربية والفارسية – حيث تهب هناك ريح السموم اللاهبة- وجود "البوادجير" أو أبراج التهوية المقامة من أجل الوقاية من متاعب فصل الصيف المرهق الذي يستمر طوال خمسة شهور في السنة ، وقد شيدت هذه الأبراج الهوائية ببراعة وإتقان وتقوم بنفس الخدمة التي تقوم بها أشرعة السفينة من حيث اصطياد الهواء وتبريد الداخل . وتخلو جميع البيوت في شواطئ الخليج من الأقواس إلا في حالات نادرة جداً مما يضفي غيابها على هذه البيوت مظهراً مميزاً . وقد شيدت أعداد كثيرة من هذه البيوت بطريقة عشوائية دونما تخطيط أو تصميم . وينطبق هذا الوصف الثابت أيضاً على جميع البيوت التي شاهدتها في مدينة بوشهر وفي أمكان أخرى أثناء هذه الرحلة . وبالرغم من أن مدينة المنامة تفتخر بوجود شيء فيها شبيه بالبلدية وذلك من خلال ما لاحظته من إعلانات ملصقة على زوايا السوق فإن القوانين الداخلية المتعلقة بالبناء تعتبر من الأمور المستبعدة ، وكل شيء يتعلق بالتدابير الصحية ليس له محل في أنظمة وتوجهات الإدارة المدنية العربية أو الفارسية .
فالطرقات في المدينة أو ما يقوم مقامها كالتي تحتاجها لأغراض السير ، قد يطلق عليها هذا الاسم من باب المبالغة في المجاملة . فمعظمها ملتوية ووعرة وضيقة (باستثناء تلك التي تفصل بين الأقسام الرئيسية من الأسواق) وغير ممهدة ومهملة وقذرة ونتنة . وعادة ما تكون الطرقات في أماكن عديدة غير متناسقة ومعقدة جداً وواقعة بين جدران أو تشرف منها نافذة مما يتطلب السكن في تلك البقعة لمدة ستة شهور على الأقل أو يتطلب تدريب دقيق للتعرف على المكان وذلك من أجل انقاذ شخص من تيه محقق في وسط تلك المتاهة من الطرقات !!
الإهمال الصحي
بالإمكان تحويل موضع الرسو وكلا جانبيه حيث يمتد المرفأ الجميل إلى منتزه خلاب تنتشر فيه المقاعد وتكسوه الأشجار الوارفة الظلال لو بذل قليل من الجهد ووظف شيء من الذوق وانفق القليل من المال ، إلا أن المفاهيم الجمالية والأفكار المتعلقة بالصحة لدى الفرد العربي ليست ذات شأن ولا يعتد بها على الإطلاق إذا كان للمرء أن يحكم – وبإمكانه ذلك – من خلال المشاهد التي وقع عليها بصري في كل صوب من هذا المركز التجاري المزدهر النابض بالحركة والواقع في وسط الخليج . فالأفكار الغربية عن تخطيط المدن والمعيشة المتحضرة لم تشق طريقها بعد نحو العقل العربي ، إلا أن التغيرات السريعة للأمور التي أحدثتها الحرب العظمى في هذا الجزء من آسيا تبشر على أية حال بأن الأمور سوف تتحسن وتسير نحو الأفضل إن شاء الله .
أما الشاطئ البحري الجميل الواقع في واجهة المدينة حيث تلمع الأمواج كالزمرد النابض بالحياة حيناً ، وكالفيروز السائل حيناً آخر ، وتتلألأ الأمواج المتكسرة المليئة بالرغوة في أشعة الشمس الساطعة أحياناً أخرى ، فقد ترك هذا الشاطئ مهملاً في حالة مزرية من القذارة والبشاعة . والطرقات هناك ليست سوى ممرات جانبية مليئة بالنفايات ومكتظة بالبضائع التي تم إنزالها من السفن أو على وشك أن تشحن إليها . وتتناثر في كل مكان وكيفما كان كتل مواد البناء والأخشاب وعتاد السفن مما يعرض المارة للخطر. ويوجد عند الشاطئ عدد من القوارب الراسية في حالة شديدة من الفوضى مربوطة بالحبال أو السلاسل في أوتاد خشبية أو مسامير طويلة مسننة الرؤوس بطريقة تؤدي حتماً إلى حدوث أضرار جسمانية لمستخدميها وكل من يقترب منها . ولا توجد هناك أشجار للتفيء في ظلها أو للاستمتاع بالنظر إليها ، كما لا يوجد هناك شيء يشيع البهجة والسرور في النفس بل العكس من ذلك كل شيء هناك يؤذي العيون ويزكم الأنوف ، إذ تتناثر في جميع أرجاء ذلك المكان الأسماك الميتة ، وجيف الحيوانات المختلفة ، وفضلات الذبائح ، كالتي تتسبب في ظهور وتفشي وباء الطاعون إلا أن الهواء الجاف المانع للتعفن يقلل بسرعة عجيبة من تلك المخاطر عن طريق منع تحلل تلك النفايات ، إلا أن أكثر المشاهد غثاثة وأشدها بشاعة من بين جميع المشاهد التي يراها الزائر هناك هو مشهد البحارة وأهالي المدينة صغاراً وكباراً وهم جالسون يلوثون الشاطئ دون مراعاة للآداب العامة ، ودون أي اعتبار للآخرين . وتبدو هذه الأمور اعتيادية جداً ومألوفة للغاية. ولم أر أحداً يقوم بأعمال الدورية في ذلك المكان ، كما أن حراس مبنى الجمارك لا يكترثون بشيء من هذا القبيل ، ولربما أنهم اعتادوا كثيراً على مثل هذه الأمور بحيث أصبحت لديهم مناعة من آثارها الضارة ، بل قد يفتقدونها إذا تم الإقلاع عنها ، فالإنسان أسير عاداته حتى الممقوت منها لا يعد مقيتا . وأتصور أن العربي رجل محترم أكثر من منافسه المغولي على الساحل المقابل . فكل ما يحتاج إليه هو القليل من التعليم النظامي والتثقيف ودعنا نأمل بأنه سوف ينال ذلك عما قريب في ظل الحكم البريطاني الذي يجب أن يسيطر حالاً على الأراضي الداخلية الواقعة فيما وراء ساحل الخليج إن شاء الله .
مضيفنا العربي
يبدو أنني استطردت كثيراً لكن ذلك على أي حال جزء من حكايتي الرمزية الغنية بالمعاني . حسنا لقد رسونا على شاطئ المنامة ، ورحب بنا هناك بعض التجار العرب الذين يعرفون القبطان ، وسرنا معهم في الفرضة المزدحمة وعبر شبكة معقدة من الممرات الضيقة والقذرة والملتوية التي تؤدي إلى المدينة متجهين نحو مكتب وكيل شركة الملاحة المالكة لباخرتنا . ويعد هذا الرجل أحد أقطاب التجارة في عالم الأعمال بالبحرين اسمه "يوسف بن أحمد كانو" وهو نموذج ملائم للعربي الوقور الوسيم القوي البنية والسليل الحقيقي لإسماعيل الابن البكر لإبراهيم الخليل . وهو حائز على ميدالية "قيصرى هند" الذهبية . وقد وقف يحيينا ويرحب بنا بحفاوة بالغة حيث إنه يكن تقديراً كبيراً للقبطان اكورجي ويعتبره أبرع ربان للبواخر في الخليج وقد أعرب عن سروره البالغ لرؤيته واستقباله.
وعند جلوسنا على المقاعد أحضر لنا الخادم القهوة التي تعتبر الرفيق الدائم لكل زيارة تتم في أي ساعة من ساعات اليوم ، وكان يمسك بإحدى يديه عدة فناجين صغيرة الحاجم كانت مصدر إحباط شديد لي عندما اكتشفت أنها أوان يابانية الصنع إذ كنت أتوقع شيئاً نفيساً من صنع الصين القديمة أو فارس ، كما كان يمسك بيده الأخرى دلة نحاسية مدهشة الصنع والشكل إذ بدت أشبه بطائر غريب المظهر قبيح المنظر . وهي صغيرة جداً في حجمها بالمقارنة مع رأسها ، وتحوي صنبور يشبه منقار طائر الطوقان أو طائر أبو قرين الذي يعيش في أدغال مليبار ، وتتدفق القهوة عبر هذا الصنبور إلى الفناجين التي تستعمل بدون صحون . وتشاهد هذه الدلال المتميزة بمنقارها الطويل في كل مكان من مدن الخليج حيث تعرض مصقولة صقلاً جيداً ولامعة براقة ، وكلما امتلك عربي المزيد من دلال القهوة كلما دل ذلك على وجاهته ومنزلته الاجتماعية . ويدل وجود خمس أو ست من هذه الدلال اللامعة البراقة حول المجمرة الملتهبة في البيوت الخاصة على ثروة ومكانة أصحابها . أما الصحون فلا تستعمل ويتضح أنها غير معروفة . وتعتبر القهوة الجيدة الصنف رحيق العرب ، وهي تشرب ساخنة وكثيفة وسوداء ومرة بدون سكر ، و غالباً ما تضاف إليها نكهة الزعفران والقرفة وتوابل أخرى . وهي تتطلب مذاقاً مكتسباً ولكنك إذا اعتدت على تذوقها فسوف تتعلق بها وتطلبها عندما تزور منزل أحد العرب . وكان يتواجد معنا في مكتب السيد يوسف أحمد كانو بعض الزوار الآخرين الذين جاءوا من أجل معاملاتهم التجارية أو جاءوا للسلام عليه والسؤال عن صحته وأحواله . ولا تزال الكراسي تعتبر من البدع الجديدة غيرة المألوفة الاستعمال في هذه النواحي !! إلا أنه إمعاناً في تكريمنا والحفاوة بنا قدم لنا كرسيين للجلوس عليهما حيث وجدناهما من صنع قديم من صناعة بومباي ، ويتميزان بالخشونة ولهما أذرع ومقاعد ومساند مصنوعة من الخيزران . ويبدو أن عادة استعمال الكراسي أو المقاعد لم تكن مجهولة في فارس والبلدان المجاورة لها قبل أكثر من ألفين سنة ماضت ، فقد شوهدت رسومات لها منقوشة في أعمال النحت بمدينة برسبوليس ويروي السير ب.سايكس في هذا الشأن رواية طريفة عن رجل فارسي كان يندب اضمحلال الحضارة الفارسية إذ أنهم اعتادوا في هذه الأيام الجلوس على الأرض في كل مكان ، إلا أن شخصاً فارسياً آخر واساه بملاحظة حكيمة موضحاً له على سبيل التملق بأن الكراسي ترمز فقط إلى التقدم المادي الذي وصل إليه الأوروبيون لتوهم بينما الفرس قد تخلوا عن الكراسي لأنهم وصلوا إلى مرتبة عالية من الروحانية !!
وباختصار لقد طاف الساقي العربي حول الضيوف وقدم لهم القهوة المعطرة المصنوعة من البن اليمني المخاوي ، ومن الأصول والقواعد الواجب عليه اتباعها أن يملأ الفنجان من القهوة مرة بعد أخرى حتى تقلب الفنجان أمامه . والفنجان صغير الحجم ومقدار السائل المسكوب فيه ضئيل جداً، لذا بإمكانك مطمئناً أن تشبع رغبتك منه أكثر من مرة عندما تقعد أو تجلس القرفصاء تتبادل الأحاديث الودية ومن أصول الضيافة العربية الترحيب حتى بالغريب عابر السبيل والسماح له بالدخول وتناول فنجان أو فنجانين من القهوة دون أي نقاش معه. ويبدو أن القهوة تترك دائماً تغلي ببطء على المجمرة الملتهبة لكي تبقى جاهزة للشرب في أي وقت يدخل فيه قادم جديد.
وتعتبر القهوة اليمنية أفضل وأثمن أصناف القهوة من حيث النوعية والنكهة وهي الوحيدة التي يمكن أن يقال لها قهوة مخا نسبة إلى ميناء تصديرها المطل على البحر الأحمر . فهذه هي حبة القهوة الحقيقية التي يعتبرها العربي الخبير بالبن الحبة الوحيدة التي تستحق التمحيص والدق لكي يصنع منها شراباً عالي الجودة . أما بقية أنواع حبوب القهوة العديدة الأخرى فتعتبر مجرد فاصوليا ، وقد وصف بالجريف في كتابه المتعلق برحلاته حبة القهوة اليمنية بأنها حبة صلبة ، مدورة ، نصف شفافة ، بنية يميل لونها إلى الأخضر ، وهي التي تنتقيها بعناية فائقة الأصباع الماهرة . وتستهلك الجزيرة العربية وسوريا ومصر بالتمام ثلثي محصولها ، أما الثلث الباقي فيقتصر استهلاكه تقريباًَ على الأفواه التركية والأرمنية . وتشحن الفضلة الباقية من أصناف حبوب القهوة الأقل جودة ونكهة المنبسطة ، والمعتمة ، الضارب لونها إلى البياض لأغراض الاستهلاك الخارجي . ويتسم العربي صاحب الثراء والمكانة الاجتماعية المرموقة والنشأة الطيبة بجودة قهوته.
والفرد العربي الذي ينتمي إلى سواحل الخليج –كما نعرفه- مثله مثل الفرد الصيني من حيث كونه متحفظاً للغاية ، وهو يفضل كثيراً – كما فضل على مدى عصور عديدة- أن يترك لوحده منعزلاً عن العالم الخارجي . وهو يفزع من تغلغل الحضارة الأجنبية ويستشعر العدوان عليه من جراء ذلك . وتعتبر احتياجاته قليلة جداً، وفي معظم أجزاء المناطق الشمالية والغربية من بلاد العرب حيث تسود الأحكام والتعاليم الوهابية أو لا تزال عالقة هناك من النادر جداً السماح باستعمال أي نوع من أنواع الترف والبذخ.
ويمنع منعاً باتاً ارتداء الحرير أو أي صنف آخر من الملابس الفاخرة ومن يفعل ذلك يقع تحت طائلة العقاب الشديد . كما يحظر في كل مكان شرب الخمور وحتى التدخين . ولا توجد في البحرين أو في أي مكان من الأنحاء المجاورة محلات لبيع الخمور حتى في الوقت الراهن الذي تراخت فيه الآداب العامة ، بينما لا يزال يعتبر التبغ أو كان يعتبر منذ عهد قريب جداً رجس من عمل الشيطان ، ويطلق عليه اسم المخزي . ويتألف طعامهم المتواضع من الأرز المسلوق مع مرق الضأن واللحم المطبوخ والخبز الخشن ، ثم يستعمل قليل من التمر أو اللبن الرائب والجبن كتحلية بعد الأكل . بينما يتألف أثاثهم المنزلي من بعض قطع السجاد أو بعض قطع الحصير المصنوع من خوص النخيل ومن الوسائل الخشنة . وكانت السجادة تمثل بالنسبة للشعوب السامية سواء في الجزيرة العربية أو سوريا أو فلسطين أو في البلدان (؟) بسهولة كيف أن المشلول "سيحمل سريره ويمشي" عندما أمره السيد المسيح أن يفعل ذلك فقد كان عليه فقط أن يطوي سجادته ويحملها على كتفه، إذ لم يك يتوفر لديهم آنذاك سرير ذو أربعة قوائم أو حتى سرير خفيف . وقد قوض التغلغل الغربي السلمي منه أو غيره تدريجياً في الآونة الأخيرة البساطة المتزمتة القديمة في التدبير المنزلي العربي . فقد أصبحت الجزيرة العربية في هذه الفترة مليئة بالاحتياجات الجديدة والأدوات الحديثة وقد دونت ملاحظات خاصة بهذا الشأن أثناء زيارتنا للبيوت والمكاتب العربية في مختلف الأماكن التي نزلت فيها بالخليج وما حوله.
وقد شاهدت في المكتب البارد الفسيح الخاص بمضيفنا بمدينة المنامة (ما يعتبره محمد بن عبد الوهاب المؤسس الكبير للحركة الوهابية ضرباً من البدع التي تسحتق الاستنكار والشجب) طاولات ومقاعداً مكتبية يستخدمها الموظفون ، وآلات طباعة لاستنساخ الرسائل ، وآلة كاتبة ، وشاهدت أيضاً تقويماً جدارياً بالانجليزية ، وساعة دقاقة أمريكية الصنع ، وخزانة حديدية حديثة الطراز ، بالإضافة إلى موظف برتغالي أو روسي الأصل تم استقدامه من بومباي للعناية بالرسائل الإنجليزية . وكانت الأقفال والمفاتيح في الماضي تتميز بأحجامها الضخمة حيث صنعت بطريقة غير عملية من الأخشاب أو صنعت دون اتقان من الحديد مما جعلها ثقيلة وصعبة عند الاستعمال .
وغالباً ما تبلغ أطوال هذه المفاتيح قرابة قدمين ، كما أنها عريضة يتعذر اخفاؤها في الجيب ، لذا كان يجب أن توضع في سلك طويل وتربط في الحزام أو تعلق متدلية على الكتف . ولكن كل هذه الأشياء قد تغيرت الآن . ويتجه العالم العربي القديم حالياً نحو تغيير شامل ، وبالإمكان الآن مشاهدة أقفال ومفاتيح أوروبية وأمريكية الصنع . وقد شاهدت في العديد من أسواق هذه الأنحاء آلات الخياطة "سنجر" معروضة للبيع ، وبعضها يقوم الخياطون العرب بتشغيلها حالياً.
وقد ذكرتني الساعة الدقاقة الأمريكية المشار إليها آنفاً بالطريقة التي يحتسب بها الوقت في هذه البلدان المطلة على الخليج ، وهي تتميز بالإنحراف عن المركز ، إذ لم تتبدد حيرتي بشأنها إلا عندما قيل لي رداً على استفساري حولها بأن العرب القاطنين في هذه الأنحاء وكما أتصور في الأنحاء الأخرى التي تحت أيديهم يبدأون احتساب الساعات من الشروق إلى الغروب . لذا فعندما تشير ساعاتنا إلى السادسة صباحاً فإن ساعتهم إن وجدت تشير إلى الواحدة صباحاً، وعند الظهر تشير ساعتهم إلى السادسة ، كما أن تشير إلى الثانية عشرة عند الغروب . أما كيف يحتسبون التوقيت ليلاً فقد فاتني التحقق من ذلك . وهذه الطريقة الخاصة باحتساب الساعات حسب النظام الشمسي تصيب الغريب بالحيرة والبلبلة حتى ولو كان قادماً من بومباي . ومن بين التغيرات الحديثة الأخرى التي طرأت في هذه البلدان المطلة على الخليج انتشار تدخين التبغ فيها على نطاق واسع وبصورة واضحة للعيان . وأصبح تدخين السيجارة التركية الضارة شائعاً بوجه عام الآن . ولم تعد النارجيلة القديمة والأقل ضرراً من الناحية الصحية تشاهد الآن بكثرة كما في السابق . ويفضل المترفين من العرب تدخين السيجار ولكن بسبب الحرب الحالية فقد توقفت مؤخراً جميع أشكال التجارة مع بغداد والقاهرة ، وتستعمل حالياً وعلى نطاق واسع من قبل الفئات الميسورة والفقيرة السيجارة المحلية الصنع المتميزة بشكلها الطويل المماثل لشكل المدخنة والمكونة من مزيج كثير من التبغ الهندي الخشن وذلك بسبب عدم توفر وسيلة أفضل للتدخين . وأتصور أن أمام تجار التبغ الهنود فرصة متاحة لتحويل أنظارهم نحو الخليج وعقد صفقات تجارية مربحة . ولم أر أي أثر لمعاقرة الخمر في هذه الأراضي القديمة من البلاد الإسلامية التي ظلت دائماً بمعزل عن الثقافة الغربية ، إذ يعيش الخليج بأكمله بمنأى عنها.
ولا تشاهد في الأسواق محلات لبيع الخمور أو المشروبات الكحولية . وأخشى ألا تطول المدة قبل أن تجد زجاجة البيرة وماء الحياة الأوروبية طريقهما إلى هذه الأنحاء كبشائر للحضارة الغربية والحياة الاجتماعية المنفتحة.
وبالرغم من التمسك التام بالأحكام القرآنية التي تنص على تحريم الخمور إلا أن هناك دون شك الكثير من المشروبات المحرمة التي تستهلك في السر . وهناك العديد من الرجال الطيبين والملتزمين دينياً الذين زارونا على متن الباخرة قد أبدوا ولعاً كبيراً وميلاً شديداً نحو الجعة الاسكتلندية واستهلكوا قدراً وافراً منها دون الحاجة إلى إضافة مادة مخففة إليها. واتوقع أن تغيراً ما سوف يطرأ حتما في هذه الأراضي التي تعيش في عزلة طويلة ، مع تغير الأزمنة والأحوال والظروف ، كما أن اختمار الأفكار والممارسات الغربية سوف يخلق رؤية جديدة أكثر شمولية عن الناس والأمور في هذه الأراضي المحافظة منذ زمن بعيد التي يقطنها أحفاد إسماعيل المنعزلين والوهابيين المتشددين ، والتي ظلت تعيش على مدى قرون عديدة وراء الكواليس معزولة عن بقية أنحاء العالم . هل ستبقى زاوية الرؤية الجديدة والتغيير الحتمي الذي يلوح في الأفق على الدوام أم لا ؟!! بقي أن نرقب ذلك ، ونرى ما سيحدث .
أسواق البحرين
ألح علينا مضيفنا وصاحبنا يوسف أحمد كانو بأدب ولطف أن نبقى لتناول وجبة الفطور معه ، وفي أثناء تحضير الفطور أوصى بنا أحد ابني أخيه ليأخذنا في جولة بالمدينة .
وقد كان دليلنا يتحدث الهندية بطلاقة وقليل من الإنجليزية أيضاً . وقد اصطحبنا في جولة طويلة في أسواق المنامة الواسعة . وقد سبق لي أن قدمت وصفاً تفصيلياً عن الأسواق في إحدى المدن الواقعة على ساحل الخليج وينطبق ذلك الوصف على معظم الأسواق في المنطقة. ولا تتمتع أسواق المنامة بمميزات خاصة تجعلها تختلف عن غيرها من الأسواق ، وبعض طرقها وممراتها المعقدة الملتوية مسقوفة إلا أن معظم طرقها وممراتها تغطيها سقوف من القش الجاف وسعف النخيل التي تجعل المكان بارداً ومحمياً من أشعة وحرارة الشمس .
ومن حسن الطالع أن كمية المطر التي تهطل سنوياً هنا شحيحة جداً وإلا فإن ممرات المشاة في هذه الأسواق سوف تتحول إلى مستنقعات من الوحل إذ لا يوفر لها هذا الغطاء سوى حماية ضعيفة جداً . وقد مررنا في الأسواق مرات عديدة بأجانس متنوعة من البشر ، من عرب ، وفرس ، ويهود ، وزنوج ، وأجناس مختلفة من أبناء سام ، إلا أنه من الملاحظ أن التركي غائب اليوم عن هذا التنوع البشري . ومن بين هذا الحشد من الأجناس يتميز العربي الجليل بسلوكه الهادئ ووسامته الشخصية ومشيته الرصينة بكونه رجلاً وقوراً محترماً.
المصدر:
رحلة بعنوان ((أرض النخيل)) أو ((رحلة من بومباي إلى البصرة والعودة إليها)) من 1916م – 1917م تأليف سي . أم . كرستجي ، ترجمة الدكتور منذر الخور من مطبوعات بانوراما الخليج .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القول الجلي في تحقيق مولد سمو الشيخ عيسى بن علي بقلم الباحث بشار الحادي

القول الجلي في تحقيق مولد سمو الشيخ عيسى بن علي وهو سمو الشيخ عيسى بن علي  بن خليفة آل خليفة حاكم البحرين طيب الله ثراه ...