القبطان ألن فاليرز الأسترالي الجنسية والذي عمل قبطاناً وقام بشراء سفينة شراعية تدعى كونراد وقادها في رحلة حول العالم ولقد كتب كتاباً عن رحلته هذه أسماه (رحلة السفينة كونراد) ثم قرر الركوب مع العرب في إحدى سفنهم الشراعية للوقوف على الطرق الملاحية التي يتبعونها في رحلاتهم الموسمية وكان يومهاً عضواً في الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية فسهلت هذه الجمعية مهمته وحين وصل إلى عدن أواخر عام 1938م لجأ إلى مكتب التاجر خالد الحمد الكويتي وقد قدمه شقيقه علي الحمد إلى النوخذة الكويتي علي بن ناصر النجدي نوخذة السفينة (بيان) والذي كان موجوداً في عدن حينها لإكمال رحلة شراعية موسمية بدأت من الكويت إلى شط العرب ثم إلى مسقط ثم إلى عدن وبعدها إلى بنادر الساحل الإفريقي الشرقي، ثم العودة إلى البحرين وأخيراً الكويت، وهو موضوع هذا الكتاب وكان عمر المؤلف لا يتجاوز 35 عاماً في ذلك الوقت وهذا نص ما ورد في رحلته عندما وصل إلى البحرين:
بعد يومين كنا نلقي مراسلينا في ميناء المنامة الضحل في جزيرة البحرين، وكان أول ما رأينا هناك سمحان بوم يوسف بن عيسى وهو يرفع علم الكويت تحية لنا. وفي داخل الميناء على مقربة من الشاطئ كان يقف بوم حامد يوسف الإيراني القادم من ديمة، كما كان بوم عبد الوهاب خليفة الكبير قد بدأ يظهر في نور الصباح الباكر، وهو يسير خلفنا في عرض البحر، محملاً بأعمدة الجندل أيضاً، ومتجهاً إلى الميناء نفسه. وفي خلال الأيام القليلة التالية وصل نصف أسطول الكويت من المراكب العائدة إلى أرض الوطن من إفريقيا والهند، بما فيها الداو الكبير بوم عبد الوهاب بن عبد العزيز، وبغلة سليمان الروضان، وبغلة ناصر بن عيسى المسماة القطة والتي لم يكن هو يدعوها بهذا الاسم، ومركب أخيه حمود المحمل بخشب الساج ومواد صنع الحبال قادماً من ماليبار، بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة مراكب إيرانية أخرى.
عندما وصلنا إلى البحرين ورأينا الميناء مكتظاً بهذا الشكل خيمت الكآبة على النجدي وأعلن في الحال بأنه عازم على العودة والاتجاه إلى عرض البحر ثانية ليواصل سيره الشاق صعوداً في الخليج، ويحاول أن يسبق المراكب الأخرى إلى البصرة. فقد دفعت الريح الشمالية بجميع تلك المراكب إلى البحرين، كما دفعتنا نحن أيضاً. ولكن يشاء حسن الطالع أن يحالفنا الحظ لأول مرة، لأنه لم يمض على وصولنا إلا ساعات قلائل، حتى كنا قد بعنا جميع حمولتنا من خشب البناء. كما لم تجد المراكب الأخرى أية صعوبة في التخلص من حمولتها أيضاً، وذلك لأن عبد العزيز بن سعود ملك المملكة العربية السعودية، كان قد زار المدينة قبل مدة وجيزة، وترك تعليمات مع أحد الوسطاء المحليين بأن يشتري حمولة عشرين راكباً من الأخشاب الصالحة للبناء. فقد كان الملك قد بدأ برنامجاً لإعمار مدينة الرياض، ومدن أخرى في مملكته، بعد أن زادت موارده زيادة محسوسة من بيع النفط الذي اكتشفته الشركات الأمريكية في البلاد، وكانت البحرين هي المكان الطبيعي للحصول على المعدات والمواد اللازمة لذلك البرنامج. لقد كنا محظوظين فعلاً، وشاء الله أن تكون الريح الشمالية نعمة لا نقمة. وكانت أسعار ابن سعود جيدة، أفضل مما يمكن أن نحصل عليه في أي مكان آخر، فقد كان الملك دائماً كريماً. وهكذا تمكنا من بيع حمولتنا عن طريق وسيط إيراني بسعر عشرين روبية لكل عشرين عاموداً، ولم نكن قد دفعنا ثمناً، لأكبر وأفضل تلك الأعمدة، أكثر من عشر روبيات لكل عشرين منها فكان ربحاً مجزياً، بعد طول انتظار، وانقلبت الرحلة فأصبحت موفقة، بعد أن كنا لا ننتظر منها خيراً.
لقد كان الحر قاتلاً في ميناء البحرين الذي كان يبدو أقل عروبة حتى من ميناء عدن. فقد كانت المنامة ميناء نشطاً كثير الحركة، ولكنه لم يكن عربياً فقد كان يعج بالهنود والإيرانيين والأمريكيين بينما كان العرب يغوصون على اللؤلؤ، والإيرانيون يقومون بالأعمال المرهقة وهو ميناء حار ورطب لدرجة لا يستحق بذل الجهد الكبير لاستكشافه. فلم تكن البلدة تبدو لي أكثر من مركز تجاري لتوزيع البضائع الرخيصة السيئة الصنع إلى الأحساء ونجد وإيران دون أن تتدخل سلطات الجمارك كثيراً ، وللحصول على أي أموال يتكرم الكفار المشرفون على صناعة النفط بإنفاقها، أو تبديدها هناك. وكانت هذه الأموال ، برغم كفاءة الأمريكيين، نبدو مبالغ طائلة، بحسب رواية العرب. فقد كانت السيارات الحديثة الأنيقة تتجول هنا وهناك في سوق المنامة، ولم تكن جميعها ملكاً لرجال النفط، بينما كان البحارة يجوبون الطرقات حفاة الأقدام ، وبجدون أن أسعار الحاجيات في هذه الأيام تفوق طاقتهم على الشراء.
أما وقد تم الاتفاق على بيع حمولتنا بهذه السرعة فقد أعلن نجدي أننا لن نمكث في المنامة أكثر من ثلاثة أيام فقد كان متلهفاً للعودة إلى الوطن.وعلى الرغم من كل ذلك فقد بدا لي أن نجدي أخذ يسمح لنفسه بالاستمتاع بوقته بشكل معقول في المنامة. فقد ذهبت معه بضع مرات إلى البر، كما زرنا بضعة مراكب أخرى. وكان واضحاً أن نوعية الحياة التي يحياها نواخذة هذه المراكب الكبيرة أخذت تميل إلى التحسن كلما اقتربوا من الوطن.فقد كنا نذهب في قارب الماشوه في الصباح الباكر، حين يكون الجو بارداً نسبياً لأن التجول في المنامة بعد الساعة العاشرة صباحاً، مشياً على الأقدام، يشبه الدخول في حمام تركي، وننزل إلى الشاطئ على طرف رصيف طويل مبني من الحجارة المرجانية. وكان هذا الرصيف في طور التحسين والتطويل، ومن هنا كانت القوارب الصغيرة التي تنقل الحجارة، وهي تنساب على سطح الماء، تسوقها أشرعتها المثلثة العالية، تم من أمامنا واحداً بعد الآخر، كأنها في حلبة سباق. وفي جميع أنحاء الأجزاء الداخلية من الميناء، كان العمال يقفون عراة في الماء، ويكسرون الصخور المرجانية، ويحملون قطعها في تلك القوارب، التي كانت تقوم بنقلها إلى الرصيف. وفي طريقنا إلى الشاطئ، كنا دائماً نتوقف عند المراكب الكويتية الأخرى ونصطحب معنا أية نواخذة يرغبون في النزول إلى البر. وفي العادة كان الجميع يرافقوننا. أما الفترات التي كانت تمتد ما بين سباق الصباح وسباق المساء فقد كنا نقضيها في التجول في أرجاء السوق، والاسترخاء في المقاهي، وتناول الطعام في بيوت التجار، والاستلقاء على سجادهم في البرودة النسبية للغرف الظليلة. أما السوق نفسه، فقد كان فسيحاً مسقوفاً، وكان فيه كل ما يخطر على البال، من العباءات العربية الجميلة، إلى الملابس الداخلية الأمريكية الصنع، ومن عطور باريس، إلى ربطات العنق الخاصة بالسهرات الرسمية، ولذلك كان باستطاعة المرء أن يشتري أي شيء يحتاجه من سوق المنامة، فقد كان ازدهار المدينة واضحاً للعيان. إلا المكان كان حديث عهد بالنعمة، وكان الازدهار يعود بشكل رئيس إلى النفط، مما جعل البحرين تنقل من لا شيء إلى أكبر ثاني عشر حقل للنفط في العالم. أما في الماضي، فقد كانت صناعة اللؤلؤ هي الصناعة الرئيسة في البلاد، إلا أنها كانت في كساد منذ مدة طويلة:
أولاً: بسبب الكساد الذي كان يسود العالم ولكن بدرجة أكبر، بسبب المنافسة الحادة للؤلؤ الاصطناعي الياباني. أما الزراعة، فقد كانت مهمة في يوم من الأيام، إلا أنها الآن أصبحت مهملة بوجه عام، وتركزت ثروة البلاد في النفط فقط. وقد بدأت أساءل وأنا أتجول مع نجدي في السوق وأرى الحوانيت المملوءة بالبضائع، ما إذا كان هذا الرخاء المفاجئ والعارض نعمة بالنسبة للبلاد ، ولكنني لم عثر على واحد يقول إنه يمانع في ذلك أو يعترض عليه. بل إن نجدي أجابني عن تساؤلي بقوله: ستصبح الكويت كالبحرين عما قريب. ولكني أجبته قائلاً: لا سمح الله ولا قدر! أليست الكويت مدينة عربية! فنظر إلي ملياً ثم قال: نعم ولكن فيها نفطاً وفيراً إلا أنه بعد لحظة أضاف قائلاً: ربما كنت على حق. فهذه المدينة ليست عربية، ولم يزد على ذلك شيئاً.وفي إحدى المرات قمنا بزيارة واحد من كبار التجار، وكان له صلة قرابة بعيدة بنجدي. وكان رجلاً محترماً قليل الكلام، يتصرف بشيء من التعالي، ويرتدي أفخر الملابس. وعندما زرناه في مكتبه في السوق ، كان مشغولاً في حديث مع عدد من الصرافين من البونيان. وهو يحاول إفهامهم بكلمات قليلة ليست كلها لطيفة مهذبة، لماذا لا يستطيع الموافقة على عروضهم. وهنا كما كان الحال في كل مكان آخر جرى الترحيب بنا بتقديم الحلوى والشراب والقهوة العربية غير المحلاة، والشاي الشديد الحلاوة. وقد دعانا الرجل لتناول طعام الغداء في منزله، إلا أننا لم نلب الدعوة. وكان تعليق نجدي على الرجل: أنه تاجر وأن التجار قوم غلاظ القلوب كل همهم جمع المال. فسألته: وماذا عن النواخذة؟ وكان جوابه: النواخذة لهم البحر. أما المال فهو لمراكبهم.
أمضينا بعض الوقت في مكتب ذلك التاجر، ولكن ما لبثنا أن أخذنا نتجول في الأزقة الضيقة التي تقع خلف السوق، حيث كانت الحمير تجري، وهي محملة بجميع أنواع البضائع، وأصحابها يركضون خلفها وهم يصيحون أفسحوا الطريق أفسحوا الطريق! ثم قمنا بزيارة بعض المكاتب الأخرى، وكانت أقل أهمية من المكتب الأول. ورأيت فيها العرب الوقورين الجادين يجلسون إلى مكاتبهم لا يفعلون شيئاً بينما كان عدد من أتباعهم يجلسون على المقاعد الطويلة يحملقون بأصحاب المكاتب ولا يفعلون شيئاً أيضاً. وكانت هذه المكاتب غرفاً عارية، لم استطع أن اكتشف نوع التجارة أو الأعمال التي كانت تقوم بها. وقد أخبرني نجدي بأن هؤلاء كانوا وسطاء، وقد بدا لي أن أي تاجر في الجزيرة العربية يستطيع أن يصبح وسيطاً إذا لم يكن باستطاعته أن يفعل أي شيء آخر.
وكان الحديث في تلك المكاتب، التي كنا نزورها زيارات مجاملة، دائماً يدور عن الأعمال التجارية، ولم يكن نجدي يشارك فيها أبداً. إلا أننا عندما كنا نتمشى في السوق أو على الشاطئ ، كنا كثيراً ما نلتقي بعدد من النواخذة الآخرين، وكان الحديث يدور معهم طبعاً عن المراكب، وكان نجدي دائماً يدلي بدلوه. وكان في هذه المواقف، يعود إلى وضعه الطبيعي ويصبح رجلاً كاملاً واثقاً من نفسه، بينما كان يصغر ويتقلص عندما يكون في مكتب أحد التجار.
عندما كنا نلتقي مع النواخذة، كنا سرعان ما نتجه إلى المقهى، وكان هذا هو نفس المقهى دائماً، وكان مقهى فسيحاً يقع في عمارة الهلال على الشاطئ وكانت شاة سوداء كبيرة تدخل إلى المكان وتخرج منه وكأنها حيوان أليف، بينما كانت الجدران مغطاة بصور غريبة. وكنا دائماً نقضي الوقت في أحاديث البحر وتدخين النارجيل. وكانت صور الجدران تتألف من صور بعض الشيوخ، وصور بعض الفتيات المصريات الجميلات ذوات العيون الجريئة، وبين هذه وتلك، صور دعاية لفتيات يدخن السجاير الأمريكية، وبعض الصور الهزلية المقطوعة من إحدى جرائد يوم الأحد التي تصدر في شيكاغو. أما الصورة الرئيسة فقد كانت صورة فظيعة ملونة، يظهر فيها بعض الشرقيين وهم يعذبون النبي عيسى بن مريم. وفوق هذه، كانت صورة مطبوعة لشاه إيران، وكان يجلس تحتها، في إحدى زوايا المقهى عدد من الإيرانيين وهم يتذمرون من تصرفات حكومتهم. وفي ركن آخر كان هناك جهاز حاك يزعق وعدد من العرب متكئين على المقاعد الطويلة، وهم يشربون الشاي ويدخنون السجاير. وكان نجدي عادة يخلع نعليه، ويبدأ بالحديث الجاد عن رحلتنا التي نقوم بها. وهكذا كنا نقتل الوقت في هذا المقهى، لأن الوقت في المقاهي العربية لم يكن يعني شيئاً للزبائن ولا لصاحب المقهى، فبإمكانك إذا شئت أن تنام أو تقضي النهار وأنت تلعب إحدى لعب الدامة الشائعة.
وفيما بعد كنا نتناول طعام الغداء في مطعم عربي يقع على الناحية الأخرى من الشارع. حيث يقدم وجبات شهية من اللحم والسمك والخضار واللبن الرائب. وبعد ذلك، كنا عادة نعود إلى المقهى لندخن نارجيلة أخيرة، قبل أن نعود أدراجنا إلى المركب لننام قليلاً. وهناك كنا نقضي القيلولة حيث الحرارة في أوجها. وعند العصر، كان النسيم يتسلل بلطف إلى مكان رسونا، فيوقظنا لتناول الشاي وأداء الصلاة. ومرة ثانية كان الحديث يدور حول المراكب والمغامرات البحرية ، بينما كل منا يداعب حبات مسبحته، ويدخن نارجيلته، ويشير بيديه لتوضيح حديثه. ولم يكن نجدي يهدأ أو يمل من الحديث، وكثيراً ما كان يقص على مستمعيه ما حدث له خلال الرحلة.
أصبحنا في آخر يوم من أيام شهر مايو (أيار) ومازلنا راسيين قبالة المنامة، وعلى الرغم من أن البوم أصبح خالياً من الحمولة ، فلم يكن هناك ما يشير إلى أننا سنغادر الميناء قريباً.
وكنا أحياناً بدلاً من أن نعود أدراجنا إلى المركب لننام القيلولة ، نقضي تلك الفترة في شقة تاجر كويتي شاب يدعى بدر الساير، في بناية هلال. وكانت هذه الشقة تطل على الشاطئ كما تطل على جزء من السوق، وكانت الحركة في كليهما تسر الناظرين.
وعندما تنكسر حدة الحر عند العصر، تدب الحياة ثانية على الشاطئ وفي السوق. فكنا نرى قطعان الأغنام الكويتية السمينة. وهي تنزل من بوم صغير إلى الرصيف وتساق من هناك إلى حيث تذبح، فتصبح لحماً للآكلين من أهل البحرين. كما كانت هناك أرتال الحمير بأجراسها التي لا تنقطع عن الرنين، وهي تهرول محملة ببالات الجلود، أو أكياس الأرز، أو جلل التمر، كما كنا نرى مجموعة من الإيرانيين ذوي الأصوات العالية المنكرة ، وهم يرتدون السراويل والقلانس الروسية الرهيبة، ويتناقشون مع رجال الجمارك بشأن إدخال عدد من رزم السجاد المنوعة. كما كانت جميع أجهزة الحاكي الموجودة في السوق تنطلق من عقالها معاً. وهكذا كانت الحياة تعود إلى المنامة ، وتعود تلك القوراب الصغيرة إلى حمل الصخور المرجانية إلى طرف الرصيف لزيادة طوله، بينما ترى على البعد مراكب الغواصين عائدة من مهمتها في البحر والسنابيك والجوالبيت عائدة من الأحساء.
وكان يتجمع في الشوارع جمهور مختلط من أبناء الشرق. فكان هناك الإيرانيون، بعضهم يرتدي ما تسمى بالملابس الأوروبية في بلادهم، والبعض الآخر يرتدي الجلاليب والعمائم الملفوفة بعناية، كما كان هناك أناس من البنيان ومن البنجاب وعدد قليل من بلوخستان، فضلاً عن العرب من عمان، والساحل المتصالح والأحساء ونجد والكويت وقطر والبحارة الزنوج الأشداء من الكويت وهم يؤرجحون مسابيحهم ويمشون كما يمشي الرجال والبدو ذوو الشعور الطويلة القادمون من البادية والمساجين يرسفون بأغلالهم وهم يسيرون في الشارع ومن خلفهم حراسهم، وواحد أو اثنان من الصوماليين النحيلي الجسم الطوال القامة المحبون للشغب والصخب الحريصون على استقلالهم في الرأي والتصرف.
تمشينا نحن عبر الساحة متجهين إلى الحمامات الإيرانية خلف المنزل، على مقربة من بستان الفاكهة وكانت هذه الحمامات رحبة وصالحة للسباحة وقد ألقينا بأنفسنا فيها وسبحنا ساعة من الزمن.. وكثيراً ما كانت البركة تمتلئ بالنواخذة يطرطشون ويلعبون كالأولاد . لقد كان المكان جيداً تهب عليه الروائح العطرة من الرياض ومن أزهار الشجر، يحملها نسيم البحر. إلا أن الطقس في الخارج كان رطباً بشكل مخيف، بحيث إن المرء يسبح في العرق حتى لو وقف جامداً لا يحير حراكا. وعلى وجه الإجمال فقد كان نواخذة المراكب العربية الكبيرة يحاولون الاستمتاع بأوقاتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
في إحدى المرات ذهبنا لزيارة حوض صناعة المراكب وهو مكان صغير يقع على أحد أطراف المدينة ، فوجدنا أن صانعي المراكب ومساعديهم يكسبون مالاً من صنع النماذج الصغيرة وبيعها لرجال النفط الأمريكان أكثر مما يكسبون من صنع المراكب الحقيقية وبيعها إلى الملاحين العرب. ويبدو أنهم كانوا فيما مضى يصنعون نماذج متقنة جداً، إلا أن كثرة عدد الزبائن، الذين لا يميزون بين الغث والسمين وكثرة الطلبات، كان لهما تأثير واضح على مستوى الصناعة. فقد كانت النماذج التي رأيتها سيئة على الرغم من أن المراكب الحقيقية التي كانت تقف هناك غير مكتملة الصنع، كانت في منتهى الجمال. وكان بعض من هذه يقف هناك منذ أربع سنوات أو خمس ، فلم يكن لها سوق رائجة، وكان حال البحارة سيئاً. وكانت أفضل الأعمال تشتمل على توزيع البضائع إلى الأحساء والتهريب إلى إيران، إلا أن تجارة اللؤلؤ التي هي عصب الاقتصاد للبلاد قد تقلصت إلى حوالي النصف.
وبالإضافة إلى هذه الزيارة وتمضية الوقت قمنا بزيارة الآثار البرتغالية . كما تناولنا طعام الغداء مرة مع أحد الإيرانيين في بلدة المحرق. وكان الطعام من اللحم والدجاج والسمك والفاكهة مبسوطاً فوق السجاد على سطح المنزل تحت ضوء القمر، وكنا من هناك نرى سفن نقل الماء وهي تضخ الماء العذب من الينابيع الواقعة تحت البحر. كما كنا نقيم الولائم ونحضر غيرها، ونسمر وحدنا ومع الآخرين، ونتجول في السوق ونتفرج على الحياة في البحرين. فيما كان بحارتنا يعملون، كنا نحن نستمتع بأوقاتنا.
وقد قمنا بزيارة حقول النفط وهي قطعة من تكساس مقامة في وسط البحرين، حيث الطقس أشبه بنار جهنم. ومع أن الأمريكان كانوا يسكنون في أكواخ مكيفة الهواء إلا أنه لم يكن ممكناً بالطبع تكييف المنشآت الخارجية، وكان الانتقال من الخارج إلى داخل تلك الأكواخ كالانتقال من الصحراء إلى برد شيكاغو، وذلك بمجرد أن تفتح الباب، وكان الانتقال المفاجئ غير المتوقع مخيفاً. وكان حقل النفط مكاناً شاسعاً حسن الإدارة ولكنه كان يبدو لنا نحن أبناء البحر مجموعة رهيبة من الخزانات الهائلة الحجم والمراجل الضخمة والأنابيب المعدنية الغريبة ذات الأشكال المعقدة يشرف عليها رجال يمكن أن يكونوا قد أتوا من كوكب المريخ ، رغم الأمور المشتركة التي تجمع بينهم وبين من حولهم من العرب. وقد شاهدنا كل شيء إلا النفط، مع أنهم كانوا يشحنون منه كميات هائلة تصل إلى عشرات الألوف من البراميل يومياً. كما لم نر أية براميل أيضاً، إلا أننا شاهدنا ناقلات النفط وهي تعبأ بالنفط لتنقله إلى الخارج . وكان النفط من الناحية الجغرافية يخص البحرين كما كانت الأرباح التي تجنى منه تنعكس رخاء على البلاد ولكنه في الحقيقة كان يمكن أن يكون في المكسيك أو فنزويلا. وكان الحقل معزولاً عن سائر الجزيرة بالأسلاك الشائكة. ولكنه كان منعزلاً بحد ذاته دونما حاجة إلى تسوير.
وكان من الممكن أن يقف المرء على مكان مرتفع في إحدى الأمسيات الصافية ، ويشاهد حقل النفط القريب الواقع على البر الأصلي التابع للعربية السعودية، والذي لم يكن يبعد عنا أكثر من عشرين ميلاً. وهناك كانت تقوم مدينة أخرى مكيفة الهواء، يسكنها رجال النفط القادمون من تكساس وجنوب كاليفورنيا ويضخون الذهب السائل من باطن الأرض. وقد علمت أن ابن سعود نفسه كان قد زار المكان قبل بضعة أيام خلت، بمناسبة شحن أول كمية كبيرة من النفط من الميناء الجديد في رأس تنورة . كما أنه كان قد قدم إلى البحرين بدعوة من شيخها صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة قبل بضعة أيام من وصولنا إلى البلاد. وقد روي لي كيف أتى إلى البحرين في قافلة مؤلفة من 300عربة شحن كبيرة و2000من الجنود البدو، الذين يأكلون الأخضر واليابس، فقد قيل إن كلاً من أولئك البدو قد استهلك خلال إقامته في البلاد تصف دستة من الغنم، وصندوقين من عصير الأناناس.
وفي هذا الوقت الذي كنا خلاله في البحرين كان النفط يدر على البلاد ما يقرب من خمسة ملايين روبية سنوياً، يذهب ثلثها إلى الأسرة الحاكمة. وكان نجدي يقول: إن البحرين قد تغيرت في السنوات العشر الماضية بحيث لم يعد بإمكان المرء أن يتعرف عليها، وإن كان يقر دائماً بأن ذلك التغيير كان نحو الأفضل. إلا أن حقل النفط وأبراج الآبار العالية والسيارات التي تمر بسرعة كبيرة كل هذه كانت تذهله وتقلقه . وكان يشكو من أنه لم يشاهد أحداً في السوق لا يرتدي على الأقل بعض الملابس من صنع أوروبا . وحتى النساء أصبحن يرتدين الجوارب والأحذية، وكان يتساءل : ما الذي دها العرب؟ ولماذا يقلدون الأوروبيين كالقردة. ويضيف قائلاً: إن النساء سيخرجن دون حجاب في وقت قريب جداً. كما سيهمل الرجال تأدية الصلاة وفي يوم قائظ من أيام الأسبوع الأول من يونيو أتى أحمد برفقة وكيل مكبنا وهما يحملان كيساً فيه ستة آلاف روبية ثمناً لأخشابنا وقد أقلعنا في المساء نفسه.
بعد يومين كنا نلقي مراسلينا في ميناء المنامة الضحل في جزيرة البحرين، وكان أول ما رأينا هناك سمحان بوم يوسف بن عيسى وهو يرفع علم الكويت تحية لنا. وفي داخل الميناء على مقربة من الشاطئ كان يقف بوم حامد يوسف الإيراني القادم من ديمة، كما كان بوم عبد الوهاب خليفة الكبير قد بدأ يظهر في نور الصباح الباكر، وهو يسير خلفنا في عرض البحر، محملاً بأعمدة الجندل أيضاً، ومتجهاً إلى الميناء نفسه. وفي خلال الأيام القليلة التالية وصل نصف أسطول الكويت من المراكب العائدة إلى أرض الوطن من إفريقيا والهند، بما فيها الداو الكبير بوم عبد الوهاب بن عبد العزيز، وبغلة سليمان الروضان، وبغلة ناصر بن عيسى المسماة القطة والتي لم يكن هو يدعوها بهذا الاسم، ومركب أخيه حمود المحمل بخشب الساج ومواد صنع الحبال قادماً من ماليبار، بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة مراكب إيرانية أخرى.
عندما وصلنا إلى البحرين ورأينا الميناء مكتظاً بهذا الشكل خيمت الكآبة على النجدي وأعلن في الحال بأنه عازم على العودة والاتجاه إلى عرض البحر ثانية ليواصل سيره الشاق صعوداً في الخليج، ويحاول أن يسبق المراكب الأخرى إلى البصرة. فقد دفعت الريح الشمالية بجميع تلك المراكب إلى البحرين، كما دفعتنا نحن أيضاً. ولكن يشاء حسن الطالع أن يحالفنا الحظ لأول مرة، لأنه لم يمض على وصولنا إلا ساعات قلائل، حتى كنا قد بعنا جميع حمولتنا من خشب البناء. كما لم تجد المراكب الأخرى أية صعوبة في التخلص من حمولتها أيضاً، وذلك لأن عبد العزيز بن سعود ملك المملكة العربية السعودية، كان قد زار المدينة قبل مدة وجيزة، وترك تعليمات مع أحد الوسطاء المحليين بأن يشتري حمولة عشرين راكباً من الأخشاب الصالحة للبناء. فقد كان الملك قد بدأ برنامجاً لإعمار مدينة الرياض، ومدن أخرى في مملكته، بعد أن زادت موارده زيادة محسوسة من بيع النفط الذي اكتشفته الشركات الأمريكية في البلاد، وكانت البحرين هي المكان الطبيعي للحصول على المعدات والمواد اللازمة لذلك البرنامج. لقد كنا محظوظين فعلاً، وشاء الله أن تكون الريح الشمالية نعمة لا نقمة. وكانت أسعار ابن سعود جيدة، أفضل مما يمكن أن نحصل عليه في أي مكان آخر، فقد كان الملك دائماً كريماً. وهكذا تمكنا من بيع حمولتنا عن طريق وسيط إيراني بسعر عشرين روبية لكل عشرين عاموداً، ولم نكن قد دفعنا ثمناً، لأكبر وأفضل تلك الأعمدة، أكثر من عشر روبيات لكل عشرين منها فكان ربحاً مجزياً، بعد طول انتظار، وانقلبت الرحلة فأصبحت موفقة، بعد أن كنا لا ننتظر منها خيراً.
لقد كان الحر قاتلاً في ميناء البحرين الذي كان يبدو أقل عروبة حتى من ميناء عدن. فقد كانت المنامة ميناء نشطاً كثير الحركة، ولكنه لم يكن عربياً فقد كان يعج بالهنود والإيرانيين والأمريكيين بينما كان العرب يغوصون على اللؤلؤ، والإيرانيون يقومون بالأعمال المرهقة وهو ميناء حار ورطب لدرجة لا يستحق بذل الجهد الكبير لاستكشافه. فلم تكن البلدة تبدو لي أكثر من مركز تجاري لتوزيع البضائع الرخيصة السيئة الصنع إلى الأحساء ونجد وإيران دون أن تتدخل سلطات الجمارك كثيراً ، وللحصول على أي أموال يتكرم الكفار المشرفون على صناعة النفط بإنفاقها، أو تبديدها هناك. وكانت هذه الأموال ، برغم كفاءة الأمريكيين، نبدو مبالغ طائلة، بحسب رواية العرب. فقد كانت السيارات الحديثة الأنيقة تتجول هنا وهناك في سوق المنامة، ولم تكن جميعها ملكاً لرجال النفط، بينما كان البحارة يجوبون الطرقات حفاة الأقدام ، وبجدون أن أسعار الحاجيات في هذه الأيام تفوق طاقتهم على الشراء.
أما وقد تم الاتفاق على بيع حمولتنا بهذه السرعة فقد أعلن نجدي أننا لن نمكث في المنامة أكثر من ثلاثة أيام فقد كان متلهفاً للعودة إلى الوطن.وعلى الرغم من كل ذلك فقد بدا لي أن نجدي أخذ يسمح لنفسه بالاستمتاع بوقته بشكل معقول في المنامة. فقد ذهبت معه بضع مرات إلى البر، كما زرنا بضعة مراكب أخرى. وكان واضحاً أن نوعية الحياة التي يحياها نواخذة هذه المراكب الكبيرة أخذت تميل إلى التحسن كلما اقتربوا من الوطن.فقد كنا نذهب في قارب الماشوه في الصباح الباكر، حين يكون الجو بارداً نسبياً لأن التجول في المنامة بعد الساعة العاشرة صباحاً، مشياً على الأقدام، يشبه الدخول في حمام تركي، وننزل إلى الشاطئ على طرف رصيف طويل مبني من الحجارة المرجانية. وكان هذا الرصيف في طور التحسين والتطويل، ومن هنا كانت القوارب الصغيرة التي تنقل الحجارة، وهي تنساب على سطح الماء، تسوقها أشرعتها المثلثة العالية، تم من أمامنا واحداً بعد الآخر، كأنها في حلبة سباق. وفي جميع أنحاء الأجزاء الداخلية من الميناء، كان العمال يقفون عراة في الماء، ويكسرون الصخور المرجانية، ويحملون قطعها في تلك القوارب، التي كانت تقوم بنقلها إلى الرصيف. وفي طريقنا إلى الشاطئ، كنا دائماً نتوقف عند المراكب الكويتية الأخرى ونصطحب معنا أية نواخذة يرغبون في النزول إلى البر. وفي العادة كان الجميع يرافقوننا. أما الفترات التي كانت تمتد ما بين سباق الصباح وسباق المساء فقد كنا نقضيها في التجول في أرجاء السوق، والاسترخاء في المقاهي، وتناول الطعام في بيوت التجار، والاستلقاء على سجادهم في البرودة النسبية للغرف الظليلة. أما السوق نفسه، فقد كان فسيحاً مسقوفاً، وكان فيه كل ما يخطر على البال، من العباءات العربية الجميلة، إلى الملابس الداخلية الأمريكية الصنع، ومن عطور باريس، إلى ربطات العنق الخاصة بالسهرات الرسمية، ولذلك كان باستطاعة المرء أن يشتري أي شيء يحتاجه من سوق المنامة، فقد كان ازدهار المدينة واضحاً للعيان. إلا المكان كان حديث عهد بالنعمة، وكان الازدهار يعود بشكل رئيس إلى النفط، مما جعل البحرين تنقل من لا شيء إلى أكبر ثاني عشر حقل للنفط في العالم. أما في الماضي، فقد كانت صناعة اللؤلؤ هي الصناعة الرئيسة في البلاد، إلا أنها كانت في كساد منذ مدة طويلة:
أولاً: بسبب الكساد الذي كان يسود العالم ولكن بدرجة أكبر، بسبب المنافسة الحادة للؤلؤ الاصطناعي الياباني. أما الزراعة، فقد كانت مهمة في يوم من الأيام، إلا أنها الآن أصبحت مهملة بوجه عام، وتركزت ثروة البلاد في النفط فقط. وقد بدأت أساءل وأنا أتجول مع نجدي في السوق وأرى الحوانيت المملوءة بالبضائع، ما إذا كان هذا الرخاء المفاجئ والعارض نعمة بالنسبة للبلاد ، ولكنني لم عثر على واحد يقول إنه يمانع في ذلك أو يعترض عليه. بل إن نجدي أجابني عن تساؤلي بقوله: ستصبح الكويت كالبحرين عما قريب. ولكني أجبته قائلاً: لا سمح الله ولا قدر! أليست الكويت مدينة عربية! فنظر إلي ملياً ثم قال: نعم ولكن فيها نفطاً وفيراً إلا أنه بعد لحظة أضاف قائلاً: ربما كنت على حق. فهذه المدينة ليست عربية، ولم يزد على ذلك شيئاً.وفي إحدى المرات قمنا بزيارة واحد من كبار التجار، وكان له صلة قرابة بعيدة بنجدي. وكان رجلاً محترماً قليل الكلام، يتصرف بشيء من التعالي، ويرتدي أفخر الملابس. وعندما زرناه في مكتبه في السوق ، كان مشغولاً في حديث مع عدد من الصرافين من البونيان. وهو يحاول إفهامهم بكلمات قليلة ليست كلها لطيفة مهذبة، لماذا لا يستطيع الموافقة على عروضهم. وهنا كما كان الحال في كل مكان آخر جرى الترحيب بنا بتقديم الحلوى والشراب والقهوة العربية غير المحلاة، والشاي الشديد الحلاوة. وقد دعانا الرجل لتناول طعام الغداء في منزله، إلا أننا لم نلب الدعوة. وكان تعليق نجدي على الرجل: أنه تاجر وأن التجار قوم غلاظ القلوب كل همهم جمع المال. فسألته: وماذا عن النواخذة؟ وكان جوابه: النواخذة لهم البحر. أما المال فهو لمراكبهم.
أمضينا بعض الوقت في مكتب ذلك التاجر، ولكن ما لبثنا أن أخذنا نتجول في الأزقة الضيقة التي تقع خلف السوق، حيث كانت الحمير تجري، وهي محملة بجميع أنواع البضائع، وأصحابها يركضون خلفها وهم يصيحون أفسحوا الطريق أفسحوا الطريق! ثم قمنا بزيارة بعض المكاتب الأخرى، وكانت أقل أهمية من المكتب الأول. ورأيت فيها العرب الوقورين الجادين يجلسون إلى مكاتبهم لا يفعلون شيئاً بينما كان عدد من أتباعهم يجلسون على المقاعد الطويلة يحملقون بأصحاب المكاتب ولا يفعلون شيئاً أيضاً. وكانت هذه المكاتب غرفاً عارية، لم استطع أن اكتشف نوع التجارة أو الأعمال التي كانت تقوم بها. وقد أخبرني نجدي بأن هؤلاء كانوا وسطاء، وقد بدا لي أن أي تاجر في الجزيرة العربية يستطيع أن يصبح وسيطاً إذا لم يكن باستطاعته أن يفعل أي شيء آخر.
وكان الحديث في تلك المكاتب، التي كنا نزورها زيارات مجاملة، دائماً يدور عن الأعمال التجارية، ولم يكن نجدي يشارك فيها أبداً. إلا أننا عندما كنا نتمشى في السوق أو على الشاطئ ، كنا كثيراً ما نلتقي بعدد من النواخذة الآخرين، وكان الحديث يدور معهم طبعاً عن المراكب، وكان نجدي دائماً يدلي بدلوه. وكان في هذه المواقف، يعود إلى وضعه الطبيعي ويصبح رجلاً كاملاً واثقاً من نفسه، بينما كان يصغر ويتقلص عندما يكون في مكتب أحد التجار.
عندما كنا نلتقي مع النواخذة، كنا سرعان ما نتجه إلى المقهى، وكان هذا هو نفس المقهى دائماً، وكان مقهى فسيحاً يقع في عمارة الهلال على الشاطئ وكانت شاة سوداء كبيرة تدخل إلى المكان وتخرج منه وكأنها حيوان أليف، بينما كانت الجدران مغطاة بصور غريبة. وكنا دائماً نقضي الوقت في أحاديث البحر وتدخين النارجيل. وكانت صور الجدران تتألف من صور بعض الشيوخ، وصور بعض الفتيات المصريات الجميلات ذوات العيون الجريئة، وبين هذه وتلك، صور دعاية لفتيات يدخن السجاير الأمريكية، وبعض الصور الهزلية المقطوعة من إحدى جرائد يوم الأحد التي تصدر في شيكاغو. أما الصورة الرئيسة فقد كانت صورة فظيعة ملونة، يظهر فيها بعض الشرقيين وهم يعذبون النبي عيسى بن مريم. وفوق هذه، كانت صورة مطبوعة لشاه إيران، وكان يجلس تحتها، في إحدى زوايا المقهى عدد من الإيرانيين وهم يتذمرون من تصرفات حكومتهم. وفي ركن آخر كان هناك جهاز حاك يزعق وعدد من العرب متكئين على المقاعد الطويلة، وهم يشربون الشاي ويدخنون السجاير. وكان نجدي عادة يخلع نعليه، ويبدأ بالحديث الجاد عن رحلتنا التي نقوم بها. وهكذا كنا نقتل الوقت في هذا المقهى، لأن الوقت في المقاهي العربية لم يكن يعني شيئاً للزبائن ولا لصاحب المقهى، فبإمكانك إذا شئت أن تنام أو تقضي النهار وأنت تلعب إحدى لعب الدامة الشائعة.
وفيما بعد كنا نتناول طعام الغداء في مطعم عربي يقع على الناحية الأخرى من الشارع. حيث يقدم وجبات شهية من اللحم والسمك والخضار واللبن الرائب. وبعد ذلك، كنا عادة نعود إلى المقهى لندخن نارجيلة أخيرة، قبل أن نعود أدراجنا إلى المركب لننام قليلاً. وهناك كنا نقضي القيلولة حيث الحرارة في أوجها. وعند العصر، كان النسيم يتسلل بلطف إلى مكان رسونا، فيوقظنا لتناول الشاي وأداء الصلاة. ومرة ثانية كان الحديث يدور حول المراكب والمغامرات البحرية ، بينما كل منا يداعب حبات مسبحته، ويدخن نارجيلته، ويشير بيديه لتوضيح حديثه. ولم يكن نجدي يهدأ أو يمل من الحديث، وكثيراً ما كان يقص على مستمعيه ما حدث له خلال الرحلة.
أصبحنا في آخر يوم من أيام شهر مايو (أيار) ومازلنا راسيين قبالة المنامة، وعلى الرغم من أن البوم أصبح خالياً من الحمولة ، فلم يكن هناك ما يشير إلى أننا سنغادر الميناء قريباً.
وكنا أحياناً بدلاً من أن نعود أدراجنا إلى المركب لننام القيلولة ، نقضي تلك الفترة في شقة تاجر كويتي شاب يدعى بدر الساير، في بناية هلال. وكانت هذه الشقة تطل على الشاطئ كما تطل على جزء من السوق، وكانت الحركة في كليهما تسر الناظرين.
وعندما تنكسر حدة الحر عند العصر، تدب الحياة ثانية على الشاطئ وفي السوق. فكنا نرى قطعان الأغنام الكويتية السمينة. وهي تنزل من بوم صغير إلى الرصيف وتساق من هناك إلى حيث تذبح، فتصبح لحماً للآكلين من أهل البحرين. كما كانت هناك أرتال الحمير بأجراسها التي لا تنقطع عن الرنين، وهي تهرول محملة ببالات الجلود، أو أكياس الأرز، أو جلل التمر، كما كنا نرى مجموعة من الإيرانيين ذوي الأصوات العالية المنكرة ، وهم يرتدون السراويل والقلانس الروسية الرهيبة، ويتناقشون مع رجال الجمارك بشأن إدخال عدد من رزم السجاد المنوعة. كما كانت جميع أجهزة الحاكي الموجودة في السوق تنطلق من عقالها معاً. وهكذا كانت الحياة تعود إلى المنامة ، وتعود تلك القوراب الصغيرة إلى حمل الصخور المرجانية إلى طرف الرصيف لزيادة طوله، بينما ترى على البعد مراكب الغواصين عائدة من مهمتها في البحر والسنابيك والجوالبيت عائدة من الأحساء.
وكان يتجمع في الشوارع جمهور مختلط من أبناء الشرق. فكان هناك الإيرانيون، بعضهم يرتدي ما تسمى بالملابس الأوروبية في بلادهم، والبعض الآخر يرتدي الجلاليب والعمائم الملفوفة بعناية، كما كان هناك أناس من البنيان ومن البنجاب وعدد قليل من بلوخستان، فضلاً عن العرب من عمان، والساحل المتصالح والأحساء ونجد والكويت وقطر والبحارة الزنوج الأشداء من الكويت وهم يؤرجحون مسابيحهم ويمشون كما يمشي الرجال والبدو ذوو الشعور الطويلة القادمون من البادية والمساجين يرسفون بأغلالهم وهم يسيرون في الشارع ومن خلفهم حراسهم، وواحد أو اثنان من الصوماليين النحيلي الجسم الطوال القامة المحبون للشغب والصخب الحريصون على استقلالهم في الرأي والتصرف.
تمشينا نحن عبر الساحة متجهين إلى الحمامات الإيرانية خلف المنزل، على مقربة من بستان الفاكهة وكانت هذه الحمامات رحبة وصالحة للسباحة وقد ألقينا بأنفسنا فيها وسبحنا ساعة من الزمن.. وكثيراً ما كانت البركة تمتلئ بالنواخذة يطرطشون ويلعبون كالأولاد . لقد كان المكان جيداً تهب عليه الروائح العطرة من الرياض ومن أزهار الشجر، يحملها نسيم البحر. إلا أن الطقس في الخارج كان رطباً بشكل مخيف، بحيث إن المرء يسبح في العرق حتى لو وقف جامداً لا يحير حراكا. وعلى وجه الإجمال فقد كان نواخذة المراكب العربية الكبيرة يحاولون الاستمتاع بأوقاتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
في إحدى المرات ذهبنا لزيارة حوض صناعة المراكب وهو مكان صغير يقع على أحد أطراف المدينة ، فوجدنا أن صانعي المراكب ومساعديهم يكسبون مالاً من صنع النماذج الصغيرة وبيعها لرجال النفط الأمريكان أكثر مما يكسبون من صنع المراكب الحقيقية وبيعها إلى الملاحين العرب. ويبدو أنهم كانوا فيما مضى يصنعون نماذج متقنة جداً، إلا أن كثرة عدد الزبائن، الذين لا يميزون بين الغث والسمين وكثرة الطلبات، كان لهما تأثير واضح على مستوى الصناعة. فقد كانت النماذج التي رأيتها سيئة على الرغم من أن المراكب الحقيقية التي كانت تقف هناك غير مكتملة الصنع، كانت في منتهى الجمال. وكان بعض من هذه يقف هناك منذ أربع سنوات أو خمس ، فلم يكن لها سوق رائجة، وكان حال البحارة سيئاً. وكانت أفضل الأعمال تشتمل على توزيع البضائع إلى الأحساء والتهريب إلى إيران، إلا أن تجارة اللؤلؤ التي هي عصب الاقتصاد للبلاد قد تقلصت إلى حوالي النصف.
وبالإضافة إلى هذه الزيارة وتمضية الوقت قمنا بزيارة الآثار البرتغالية . كما تناولنا طعام الغداء مرة مع أحد الإيرانيين في بلدة المحرق. وكان الطعام من اللحم والدجاج والسمك والفاكهة مبسوطاً فوق السجاد على سطح المنزل تحت ضوء القمر، وكنا من هناك نرى سفن نقل الماء وهي تضخ الماء العذب من الينابيع الواقعة تحت البحر. كما كنا نقيم الولائم ونحضر غيرها، ونسمر وحدنا ومع الآخرين، ونتجول في السوق ونتفرج على الحياة في البحرين. فيما كان بحارتنا يعملون، كنا نحن نستمتع بأوقاتنا.
وقد قمنا بزيارة حقول النفط وهي قطعة من تكساس مقامة في وسط البحرين، حيث الطقس أشبه بنار جهنم. ومع أن الأمريكان كانوا يسكنون في أكواخ مكيفة الهواء إلا أنه لم يكن ممكناً بالطبع تكييف المنشآت الخارجية، وكان الانتقال من الخارج إلى داخل تلك الأكواخ كالانتقال من الصحراء إلى برد شيكاغو، وذلك بمجرد أن تفتح الباب، وكان الانتقال المفاجئ غير المتوقع مخيفاً. وكان حقل النفط مكاناً شاسعاً حسن الإدارة ولكنه كان يبدو لنا نحن أبناء البحر مجموعة رهيبة من الخزانات الهائلة الحجم والمراجل الضخمة والأنابيب المعدنية الغريبة ذات الأشكال المعقدة يشرف عليها رجال يمكن أن يكونوا قد أتوا من كوكب المريخ ، رغم الأمور المشتركة التي تجمع بينهم وبين من حولهم من العرب. وقد شاهدنا كل شيء إلا النفط، مع أنهم كانوا يشحنون منه كميات هائلة تصل إلى عشرات الألوف من البراميل يومياً. كما لم نر أية براميل أيضاً، إلا أننا شاهدنا ناقلات النفط وهي تعبأ بالنفط لتنقله إلى الخارج . وكان النفط من الناحية الجغرافية يخص البحرين كما كانت الأرباح التي تجنى منه تنعكس رخاء على البلاد ولكنه في الحقيقة كان يمكن أن يكون في المكسيك أو فنزويلا. وكان الحقل معزولاً عن سائر الجزيرة بالأسلاك الشائكة. ولكنه كان منعزلاً بحد ذاته دونما حاجة إلى تسوير.
وكان من الممكن أن يقف المرء على مكان مرتفع في إحدى الأمسيات الصافية ، ويشاهد حقل النفط القريب الواقع على البر الأصلي التابع للعربية السعودية، والذي لم يكن يبعد عنا أكثر من عشرين ميلاً. وهناك كانت تقوم مدينة أخرى مكيفة الهواء، يسكنها رجال النفط القادمون من تكساس وجنوب كاليفورنيا ويضخون الذهب السائل من باطن الأرض. وقد علمت أن ابن سعود نفسه كان قد زار المكان قبل بضعة أيام خلت، بمناسبة شحن أول كمية كبيرة من النفط من الميناء الجديد في رأس تنورة . كما أنه كان قد قدم إلى البحرين بدعوة من شيخها صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة قبل بضعة أيام من وصولنا إلى البلاد. وقد روي لي كيف أتى إلى البحرين في قافلة مؤلفة من 300عربة شحن كبيرة و2000من الجنود البدو، الذين يأكلون الأخضر واليابس، فقد قيل إن كلاً من أولئك البدو قد استهلك خلال إقامته في البلاد تصف دستة من الغنم، وصندوقين من عصير الأناناس.
وفي هذا الوقت الذي كنا خلاله في البحرين كان النفط يدر على البلاد ما يقرب من خمسة ملايين روبية سنوياً، يذهب ثلثها إلى الأسرة الحاكمة. وكان نجدي يقول: إن البحرين قد تغيرت في السنوات العشر الماضية بحيث لم يعد بإمكان المرء أن يتعرف عليها، وإن كان يقر دائماً بأن ذلك التغيير كان نحو الأفضل. إلا أن حقل النفط وأبراج الآبار العالية والسيارات التي تمر بسرعة كبيرة كل هذه كانت تذهله وتقلقه . وكان يشكو من أنه لم يشاهد أحداً في السوق لا يرتدي على الأقل بعض الملابس من صنع أوروبا . وحتى النساء أصبحن يرتدين الجوارب والأحذية، وكان يتساءل : ما الذي دها العرب؟ ولماذا يقلدون الأوروبيين كالقردة. ويضيف قائلاً: إن النساء سيخرجن دون حجاب في وقت قريب جداً. كما سيهمل الرجال تأدية الصلاة وفي يوم قائظ من أيام الأسبوع الأول من يونيو أتى أحمد برفقة وكيل مكبنا وهما يحملان كيساً فيه ستة آلاف روبية ثمناً لأخشابنا وقد أقلعنا في المساء نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق