المنامة - علي الجلاوي
كنت أضع كأس الماء على الطاولة. الوجوه التي أمامي أحفظها عن ظهر قلب. كلهم كبار سن يفتحون صالونهم كل صباح متحلقين أمام مكتب والدي في المنامة. كان الحديث يمضي بهم فيدخلهم في السياسة أو التجارة أو الدين أو الذكريات. وأية قضية جديدة تصبح مادة دسمة للحوار بينهم. وصل في هذه الأثناء رجل في عقده الثامن. على ملامح وجهه آثار مكانته.
ولديه صمت كبار السن الحكماء، ولكن شيئاً ما يفضحه. نعم شيء ما يشي به. كان لديه قلب طفل. لم أعرف ذلك إلا بعد لقاءات طويلة دارت بيني وبينه. شدني لهذه اللقاءات ذاكرته وكمية المعلومات التي يمتلكها. لقد كانت له دراية أبناء العائلة الحاكمة بشئون الدولة، ورزانة التجار في تعامله، مع طيبة العمال في قلبه، ولكنه سريع الغضب. مع ثاني لقاء لي معه أخبرته برغبتي في الجلوس معه، وكتابة جزء من حياته؛ لأنه يشكّل جزءاً من تاريخ التجارة والحوادث التي مرت بها البحرين. لم يعرني اهتماماً، ومضى في حديث أبي ياسر العوامي، ولكنه حين نهض للمغادرة التفت إليَّ وقال: «مر عليّ المكتب ويصير خير». بهذه العبارة ابتدأت سيرته بالنسبة إلي، سيرة رجل عاصر خمسة من حكام البحرين وهم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، الشيخ حمد بن عيسى فالشيخ سلمان بن حمد، فالأمير عيسى بن سلمان، وحالياً الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وعاصر حربين عالميتين.
مقدمة لابد منها
إن الحديث عن عائلة فخرو حديث عن تاريخ في أكثر من موقع جغرافي، من القديم حتى العهد الراهن. فعائلة فخرو من العائلات التي نزحت من أطراف الخليج الواقع في القسم الإيراني، والذي كان يطلق عليه «بر فارس». شمل هذا البر الكثير من المدن والقرى التي سكنتها الكثير من القبائل العربية، التي نزحت بعد ذلك إلى دول الخليج، وقد أطلق على هذه العائلات «الهولة». والبعض يذهب إلى أن هذه الكلمة محوّرة وهي تعني «الحولة»، أي: الذين تحولوا من أرض إلى أرض، ولكن لم نجد ما يسند هذا التأويل، غير أن الكثير من المصادر تشير إلى هجرات جماعية لقبائلَ عربيةٍ من الجزيرة العربية إلى بر فارس.
ولعل من هذه المصادر ما أشار إليه الرحالة الدنماركي كاستين نيبور - الذي زار منطقة بر فارس في سنة 1761م - حين أشار إلى انحسار النفوذ الفارسي، إذ لم يشمل كامل البر الفارسي، وهناك قبائل عربية منتشرة على ساحل الخليج.
وقبله كان الرحالة العربي ابن بطوطة قد نزل بهذه المناطق، وقد أشار إلى بعض علمائها، وكذلك المستشرق جيمس هورغن في بعض الدراسات التي قدمها، بقوله بـ «وجد بعض العناصر العربية في المنطقة». وكان اهتمامه بالعرب الفرس قد بدأ نهاية القرن الثامن عشر.
على ذلك يبدو واضحاً أن بعض القبائل العربية هاجرت واستوطنت هذه المناطق الساحلية من بر فارس، ولأوضاع سياسية ودينية تركت هذه القبائل بر فارس ونزحت إلى الدول العربية، وهذا النزوح لم يشمل القبائل العربية فقط، فقد كانت هناك الكثير من الهجرات وخصوصاً مع طفرة النفط في الخليج العربي، ومن العائلات التي نزحت من بر فارس، السعيدي وكانو والأنصاري والشريف وأمين وخنجي والكوهجي والبستكي واليوسف والعوضي وزينل والمحمود والمؤيد وأحمدي والمهندي والعبيدلي وجناحي والهولي ويادكار والكواري والشيباني والمراغي وآخرون.
وكان التنافس واضحاً بين العرب أنفسهم على هذه المواقع بالذات. فتذكر المصادر أن القواسم سيطروا على قسم من الساحل الإيراني، الذي شمل منطقة وميناء لنجة في العام 1763م، وقد كانت القاعدة الأساسية للقواسم في رأس الخيمة، ولكن بعد حرب السفن والسيطرة البريطانية على الخليج تم تقسيم المناطق، وعلى اثر ذلك قسمت المنطقة بين القواسم وأبناء عمومتهم من القواسم أيضاً، أي استقل الطرف القاسمي المقيم في بلاد فارس عن الطرف القاسمي المقيم في الشارقة، وذلك في العام 1819م بعد الحملة التي قام بها البريطانيون، إلا أن توزيع الأراضي لم يتم إلا في العام 1835م. غير أن السيطرة العربية على سواحل إيران لم تدم طويلاً. فقد امتد النفوذ الإيراني على هذه الأراضي وحكمت بجهاز الدولة الشاهي. فأتت مسألة الجزر المتنازع عليها بين الإمارات العربية المتحدة وإيران؛ نتيجةً لوجود العرب الذين كانوا يقطنون في هذه الجزر. يذكر أن أكثر - إن لم يكن كل - القبائل التي نزحت من بر فارس إلى الدول الخليجية هي على المذهب السني الشافعي. لذلك أرجع البعض أسباب نزوح هذه القبائل إلى المضايقات بسبب كون حكومة طهران تدين بالمذهب الشيعي.
ويذكر أن اللغة التي كان ينطق بها أكثر القبائل في البر الفارسي لغة تتكون من مزيج بين العربية والفارسية، وهذا ما يدعو للنظر في النسب الذي سنمر على ذكره لاحقاً لكونهم تأثروا وأصبحت لهم لغة خاصة هي مزيج من العربية والفارسية. إلا أن أسماءهم بقيت كما هي، علماً أن ديلم قد ذكره ابن خلدون وبعض النسابة، والإشارة هنا إلى أن بعض الأسماء قد دخلت على هذه الشجرة. سنمر على ذلك لاحقاً.
وعُرِفت هذه القبائل بامتهانها التجارة ورعي الماشية والصيد في البر والبحر، وعرفت في الملاحة وصيد اللؤلؤ أيضاً. والكثير من هذه العائلات بعد نزوحها إلى دول الخليج تعد من أغنى العائلات، والكثير من أبنائها لهم مكانتهم المرموقة بين التجار.
كما أن بعض المصادر العربية تشير إلى أن عائلة فخرو من أولى العائلات العربية التي نزحت إلى بر فارس، وترجعها بعض المصادر إلى قبيلة تميم. وقد نزحوا عن طريق كاظمة التي تعرف الآن بمنطقة في دولة الكويت. وينسبهم البعض إلى هذه الشجرة التي تتصل بفخراه وهم: فخراه بن عبدالله بن جاسم بن عبدالرحمن بن علي بن عبيد بن حسن بن راشد بن راشد بن سليمان بن سعد بن سعيد بن يوسف بن مسعود بن سعد بن مصعب بن سعد بن إسماعيل بن سعد بن محمد - ومحمد هذا يعتبر الابن السابع عشر لعدنان أحد أجداد الرسول (ص) - بن علي بن طلحة بن محمود بن سعيد بن راشد بن براك بن مالك بن دليم بن باسل بن ضبة بن إد ابن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
إلا أن هذه الشجرة التي تقود إلى العدنانيين، عليها بعض الملاحظات، والتي يجب نقاشها، على صحة هذه الشجرة. فهم يلتقون نسب النبي من إلياس، أي: جد النبي السادس عشر. وقد لاحظنا وجود اسم محمد في الشجرة السابقة، علماً أن العرب تقول إن أول من سمي بهذا الاسم هو النبي محمد (ص)، وأيضاً يوجد اسم محمود. وغير ذلك إن بعض الأسماء التي يفترض بها التأثر بالأجواء العامة والبيئة التي تعيش فيها، ولكن لم نجد أي اسم من هذه الأسماء له صلة فارسية. وهناك أسماء مثل راشد، وهو اسم لم يكن شائعاً في تلك الحقبة، يبدو أن هذه الشجرة قد أسقطت بعض الأسماء. لذلك قد يكون إرجاعها للفخر الرازي وهو تميمي سكن الري وفيها ناحية يقال لها فخر آباد؛ مما يجعل النسب إليها يتيح بعض الأسباب.
وبعد نزوح هذه العائلة - عائلة فخرو - التي استوطن قسم منها المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وقطر وخصوصاً مدينة الدوحة والبحرين بمدينة المحرق، وقسم منهم في سورية بمدينة حلب وآخرون في العراق، ومن نسل قبيلة فخرو في قطر الشيخ جاسم بن درويش فخرو (1879-1992) الذي حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب منذ الحادية عشرة من عمره، ودخل المدرسة التي بناها الشيخ عبدالله بن جاسم آل ثاني العام 1917م، وكان يؤم الناس في الصلاة، وعرف كذلك رجل دين وتاجراً مرموقاً.
عائلة فخرو في البحرين
سكنت هذه العائلة البحرين قبل 250 عاماً تقريباً، أي: كانت هجرتهم في نهاية القرن السابع عشر، والتحدث عن علي بن يوسف فخرو في مرحلة الطفولة، أو المرحلة الأولى من حياته حديثٌ عن شخصية اصطبغت ملامحها بأحياء المحرق القديمة، وخصوصاً حي «الصنقل».
طفولة على قائمة الانتظار
كانت له أخوات من أبيه في سن والدته. تواصلت علاقتهن بزوجة أبيهم باعتبارها أختاً كبرى لهن. فحين يغيب والدهن في فراش زوجة أخرى، كن يبتن لديها بعض الليالي. وحين تخرج الشمس على أجسامهن كانت تعد لهن الطعام، فيفطرن جميعاً. وامتدت هذه العلاقة بين الزوجات أيضاً، ولم تدخلها المشاحنات والعداوات كما يحدث غالباً، بل كانت تميل إلى العلاقة الحميمة بين بعضهن بعضاً.
وبعد وفاة والدته قامت على رعايته جدته لأمه. فسكن بيتها ونعم بدفء كنفها. وهو بيت جده الحاج محمد علي المحميد. أخذت في تربيته وكان بالنسبة إليها تعويضاً عن ابنتها التي فقدت مبكراً، وكذلك رعته وخصته خالته أسماء بنفسها، فكان مدللاً له مكانة خاصة في هذا البيت الذي يمضي فيه الدفء.
«الشمس قالت للقمر:
أحبابنا كل البشر
نهدي لهم أرواحناً
دليل حب يا قمر»
كان فرح طفولي يطلُّ من عينيه. وذهب في سرده وذكرياته. شعرت بأني أشعلت ذاكرة طفولته، وتركته يتذكر بصوت واضح. أخذ يتحدث كأنه يحادث نفسه، وعلى شفته ابتسامة طفل. قال: «كانت الامتحانات في المدرسة شفهية، نعم شفهية. يحضر أولياء الأمور أثناء إجراء الامتحانات. واللباس الرسمي هو الثوب والغترة، ونعتبر أي طالب لا يلبس الثوب والغترة مرتكباً عيباً. وكنّا نطلق على من لا يضع الغترة حاسراً. الأشياء اختلفت كثيرا الآن». بهذه الكلمات ألقى بظهره إلى الكرسي، ثم صمت.
وكانت من المدارس التي تفتح صيفاً مدرسة علي الزياني، وهي مكونة من خمسة فصول، ويقوم بالتدريس فيها الأستاذ أحمد عثمان الزياني، وهو يدرّس أيضاً بمدرسة الهداية الخليفية، ومع الأستاذ زكريا أحمد، كان يدرس مادة الموسيقى، غير أني لم أرتد هذه المدرسة، ولكني درست عند السيدعلي الموسوي قرابة عام. فقد عرف عنه تدريسه حساب الغوص والخط، كما كان يعطي طلبته نسخاً من كشوفات التجار ليقوم بتدريبهم عليها.
فعمارة المنامة كانت لبيع السيارات وقطع غيارها، أما عمارة النعيم فكانت لأدوات البناء، وهي عبارة عن أربعة محلات، منها محل لبيع الأخشاب، ومحل لأدوات البناء، وأما عمارة المحرق فكانت لبيع المواد الغذائية، مثل التمر والرز والعدس والطحين. أذكر كان لدينا عدد من السفن الخاصة لجلب المواد الغذائية، وغالبا ما كانت تقصد الهند لجلب هذه المواد، وفي الأيام العادية كانت سفننا تجلب الطحين من كراتشي أو البصرة، فلم يكن هناك طحين في البحرين، وكانت سفينة البوم تحمل ألفي كيس طحين إلى ثلاثة آلاف. ومع دخول الماسون (ريح شديدة)، فإن السفن لا تذهب إلى الهند، وكذلك عند نزول الأمطار؛ لأن السفن الشراعية لا يمكنها الإبحار. فمنذ أول شهر مايو/ أيار إلى غاية شهر سبتمبر/ أيلول تتوقف السفن في الميناء. وحين يدخل موسم الأمطار على سفينة موجودة خارج البحرين، فإنها تلزم الميناء الذي رست فيه، ولا تبحر حتى خروج الموسم، ولم يكن ذلك مقتصرا على السفن الشراعية فقط، فحتى السفن البخارية كانت تتجنب الإبحار في هذا الموسم. سفننا كانت تنقل التمور من البحرين إلى الدول الأخرى وتجلب الطحين والعدس والرز والبضائع الأخرى منها.
بعدها توليت بيع وترويج وكالة فيليبس للالكترونيات، وهو العمل الذي أخذ أطول فترة من حياتي. هذه الفترة عشتها في كنف والدي ببيتنا الكائن بمدينة المحرق. وبعد وفاة والدتي في الخامس عشر من شهر رمضان الكريم الواقع في سنة 1941م، كنت لا أزال أرتاد المدرسة، ولكن بعد الانتهاء من الدراسة توجهت لإمارة دبي؛ دفعا من والدي، لإدارة أعمال مكتبنا هناك.
سكنت في إمارة دبي بمجلس الشورى الذي حدث فيه الانقلاب. فقد قمت باستئجاره، إذ كان يعود بملكيته لعبد اللطيف. كان هذا البيت مطلا على البحر، وقريبا من مكان تجارتنا، كما كانت لدينا علاقة جيدة بحكام إمارة دبي. فقد كان الشيخ سعيد والشيخ راشد يزوراننا بين الحين والآخر في البحرين، ومن هنا نشأت صداقتي بهما. وهذه الفترة دفعت أكثر تجار البحرين إلى فتح مكاتب لهم في دبي، منهم على سبيل المثال عائلة مصطفى عبد اللطيف، وعائلة فاروق وعائلة بدري وكذلك عائلة خان بهادر.
كان رأس المال الذي دفعني في أول الأمر إلى دبي، وجعلني أعمل فيها في التصدير مصدره والدي، فعندما طلب مني السفر إلى إمارة دبي وضع بيدي حقيبة. في أول الأمر كنت أجهل ما بها، وحين وصلت إلى دبي فتحتها لأجدها مليئة بالأوراق النقدية، وكذلك أعطاني أخي الأكبر دفتراً وضع فيه ما يجب علي شراؤه من البضائع، مع بعض الملاحظات.
انظر
صحيفة الوسط العدد 1969 الاحد 27 يناير 2008 الموافق 18 محرم 1429 هــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق