السبت، 13 نوفمبر 2010

مذكرات رجل عاصر خمسة من حكّام البحرين وحربين عالميتين... علي بن يوسف فخرو: بين الهجرة والتجارة / البحرين

المنامة - علي الجلاوي

كنت أضع كأس الماء على الطاولة. الوجوه التي أمامي أحفظها عن ظهر قلب. كلهم كبار سن يفتحون صالونهم كل صباح متحلقين أمام مكتب والدي في المنامة. كان الحديث يمضي بهم فيدخلهم في السياسة أو التجارة أو الدين أو الذكريات. وأية قضية جديدة تصبح مادة دسمة للحوار بينهم. وصل في هذه الأثناء رجل في عقده الثامن. على ملامح وجهه آثار مكانته.

ولديه صمت كبار السن الحكماء، ولكن شيئاً ما يفضحه. نعم شيء ما يشي به. كان لديه قلب طفل. لم أعرف ذلك إلا بعد لقاءات طويلة دارت بيني وبينه. شدني لهذه اللقاءات ذاكرته وكمية المعلومات التي يمتلكها. لقد كانت له دراية أبناء العائلة الحاكمة بشئون الدولة، ورزانة التجار في تعامله، مع طيبة العمال في قلبه، ولكنه سريع الغضب. مع ثاني لقاء لي معه أخبرته برغبتي في الجلوس معه، وكتابة جزء من حياته؛ لأنه يشكّل جزءاً من تاريخ التجارة والحوادث التي مرت بها البحرين. لم يعرني اهتماماً، ومضى في حديث أبي ياسر العوامي، ولكنه حين نهض للمغادرة التفت إليَّ وقال: «مر عليّ المكتب ويصير خير». بهذه العبارة ابتدأت سيرته بالنسبة إلي، سيرة رجل عاصر خمسة من حكام البحرين وهم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، الشيخ حمد بن عيسى فالشيخ سلمان بن حمد، فالأمير عيسى بن سلمان، وحالياً الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وعاصر حربين عالميتين.

مقدمة لابد منها

إن الحديث عن عائلة فخرو حديث عن تاريخ في أكثر من موقع جغرافي، من القديم حتى العهد الراهن. فعائلة فخرو من العائلات التي نزحت من أطراف الخليج الواقع في القسم الإيراني، والذي كان يطلق عليه «بر فارس». شمل هذا البر الكثير من المدن والقرى التي سكنتها الكثير من القبائل العربية، التي نزحت بعد ذلك إلى دول الخليج، وقد أطلق على هذه العائلات «الهولة». والبعض يذهب إلى أن هذه الكلمة محوّرة وهي تعني «الحولة»، أي: الذين تحولوا من أرض إلى أرض، ولكن لم نجد ما يسند هذا التأويل، غير أن الكثير من المصادر تشير إلى هجرات جماعية لقبائلَ عربيةٍ من الجزيرة العربية إلى بر فارس.

ولعل من هذه المصادر ما أشار إليه الرحالة الدنماركي كاستين نيبور - الذي زار منطقة بر فارس في سنة 1761م - حين أشار إلى انحسار النفوذ الفارسي، إذ لم يشمل كامل البر الفارسي، وهناك قبائل عربية منتشرة على ساحل الخليج.

وقبله كان الرحالة العربي ابن بطوطة قد نزل بهذه المناطق، وقد أشار إلى بعض علمائها، وكذلك المستشرق جيمس هورغن في بعض الدراسات التي قدمها، بقوله بـ «وجد بعض العناصر العربية في المنطقة». وكان اهتمامه بالعرب الفرس قد بدأ نهاية القرن الثامن عشر.

على ذلك يبدو واضحاً أن بعض القبائل العربية هاجرت واستوطنت هذه المناطق الساحلية من بر فارس، ولأوضاع سياسية ودينية تركت هذه القبائل بر فارس ونزحت إلى الدول العربية، وهذا النزوح لم يشمل القبائل العربية فقط، فقد كانت هناك الكثير من الهجرات وخصوصاً مع طفرة النفط في الخليج العربي، ومن العائلات التي نزحت من بر فارس، السعيدي وكانو والأنصاري والشريف وأمين وخنجي والكوهجي والبستكي واليوسف والعوضي وزينل والمحمود والمؤيد وأحمدي والمهندي والعبيدلي وجناحي والهولي ويادكار والكواري والشيباني والمراغي وآخرون.

وكان التنافس واضحاً بين العرب أنفسهم على هذه المواقع بالذات. فتذكر المصادر أن القواسم سيطروا على قسم من الساحل الإيراني، الذي شمل منطقة وميناء لنجة في العام 1763م، وقد كانت القاعدة الأساسية للقواسم في رأس الخيمة، ولكن بعد حرب السفن والسيطرة البريطانية على الخليج تم تقسيم المناطق، وعلى اثر ذلك قسمت المنطقة بين القواسم وأبناء عمومتهم من القواسم أيضاً، أي استقل الطرف القاسمي المقيم في بلاد فارس عن الطرف القاسمي المقيم في الشارقة، وذلك في العام 1819م بعد الحملة التي قام بها البريطانيون، إلا أن توزيع الأراضي لم يتم إلا في العام 1835م. غير أن السيطرة العربية على سواحل إيران لم تدم طويلاً. فقد امتد النفوذ الإيراني على هذه الأراضي وحكمت بجهاز الدولة الشاهي. فأتت مسألة الجزر المتنازع عليها بين الإمارات العربية المتحدة وإيران؛ نتيجةً لوجود العرب الذين كانوا يقطنون في هذه الجزر. يذكر أن أكثر - إن لم يكن كل - القبائل التي نزحت من بر فارس إلى الدول الخليجية هي على المذهب السني الشافعي. لذلك أرجع البعض أسباب نزوح هذه القبائل إلى المضايقات بسبب كون حكومة طهران تدين بالمذهب الشيعي.

ويذكر أن اللغة التي كان ينطق بها أكثر القبائل في البر الفارسي لغة تتكون من مزيج بين العربية والفارسية، وهذا ما يدعو للنظر في النسب الذي سنمر على ذكره لاحقاً لكونهم تأثروا وأصبحت لهم لغة خاصة هي مزيج من العربية والفارسية. إلا أن أسماءهم بقيت كما هي، علماً أن ديلم قد ذكره ابن خلدون وبعض النسابة، والإشارة هنا إلى أن بعض الأسماء قد دخلت على هذه الشجرة. سنمر على ذلك لاحقاً.

وعُرِفت هذه القبائل بامتهانها التجارة ورعي الماشية والصيد في البر والبحر، وعرفت في الملاحة وصيد اللؤلؤ أيضاً. والكثير من هذه العائلات بعد نزوحها إلى دول الخليج تعد من أغنى العائلات، والكثير من أبنائها لهم مكانتهم المرموقة بين التجار.

كما أن بعض المصادر العربية تشير إلى أن عائلة فخرو من أولى العائلات العربية التي نزحت إلى بر فارس، وترجعها بعض المصادر إلى قبيلة تميم. وقد نزحوا عن طريق كاظمة التي تعرف الآن بمنطقة في دولة الكويت. وينسبهم البعض إلى هذه الشجرة التي تتصل بفخراه وهم: فخراه بن عبدالله بن جاسم بن عبدالرحمن بن علي بن عبيد بن حسن بن راشد بن راشد بن سليمان بن سعد بن سعيد بن يوسف بن مسعود بن سعد بن مصعب بن سعد بن إسماعيل بن سعد بن محمد - ومحمد هذا يعتبر الابن السابع عشر لعدنان أحد أجداد الرسول (ص) - بن علي بن طلحة بن محمود بن سعيد بن راشد بن براك بن مالك بن دليم بن باسل بن ضبة بن إد ابن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

إلا أن هذه الشجرة التي تقود إلى العدنانيين، عليها بعض الملاحظات، والتي يجب نقاشها، على صحة هذه الشجرة. فهم يلتقون نسب النبي من إلياس، أي: جد النبي السادس عشر. وقد لاحظنا وجود اسم محمد في الشجرة السابقة، علماً أن العرب تقول إن أول من سمي بهذا الاسم هو النبي محمد (ص)، وأيضاً يوجد اسم محمود. وغير ذلك إن بعض الأسماء التي يفترض بها التأثر بالأجواء العامة والبيئة التي تعيش فيها، ولكن لم نجد أي اسم من هذه الأسماء له صلة فارسية. وهناك أسماء مثل راشد، وهو اسم لم يكن شائعاً في تلك الحقبة، يبدو أن هذه الشجرة قد أسقطت بعض الأسماء. لذلك قد يكون إرجاعها للفخر الرازي وهو تميمي سكن الري وفيها ناحية يقال لها فخر آباد؛ مما يجعل النسب إليها يتيح بعض الأسباب.

وبعد نزوح هذه العائلة - عائلة فخرو - التي استوطن قسم منها المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وقطر وخصوصاً مدينة الدوحة والبحرين بمدينة المحرق، وقسم منهم في سورية بمدينة حلب وآخرون في العراق، ومن نسل قبيلة فخرو في قطر الشيخ جاسم بن درويش فخرو (1879-1992) الذي حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب منذ الحادية عشرة من عمره، ودخل المدرسة التي بناها الشيخ عبدالله بن جاسم آل ثاني العام 1917م، وكان يؤم الناس في الصلاة، وعرف كذلك رجل دين وتاجراً مرموقاً.

عائلة فخرو في البحرين

سكنت هذه العائلة البحرين قبل 250 عاماً تقريباً، أي: كانت هجرتهم في نهاية القرن السابع عشر، والتحدث عن علي بن يوسف فخرو في مرحلة الطفولة، أو المرحلة الأولى من حياته حديثٌ عن شخصية اصطبغت ملامحها بأحياء المحرق القديمة، وخصوصاً حي «الصنقل».


ولدته سيدة هي السادسة بين زوجات الحاج يوسف بن عبدالرحمن، وكانت تبلغ من العمر حينئذ 17 ربيعاً. فُطِم هذا الابن مبكراً، حين حبلت والدته وهو ابن أربعة أشهر، لتنجب له أخاً أطلقوا عليه اسم حسن، وتلته بعد ذلك أخت وهي نورة. بلغ حسن الثانية وكذا نورة، غير أنهما سرعان ما فارقا الحياة، ليكتشف علي الابن أنه وحيد يفارقه إخوته، وأن ذاكرته خبرت الموت مبكراً، مع تفتح مدركاته على هذا الوجود، ولكن إصرار الأمومة في روح والدته دفعها إلى أن تنجب له أختاً بعد عشرة أشهر من وفاة نورة وحسن، ولكن قطار الموت مازال يترصده، ولكن هذه المرة كان أكثر إيلاماً، لتغادره هذه المرة والدته وهي لا تتجاوز الثانية والعشرين.


كنتُ أبصره حين كان يروي هذه الحادثة وهو يلفه شيء من الصمت. ثم وضع يده على عينيه، ومن اللافت أن والده الحاج يوسف لم يتزوج بعد والدته، وحين كان على فراش رحيله كان ينظر إلى وجه ابنه علي، إذ كان يرى فيه وجه والدته، فكانت تبدو على قسماته آثار الحزن.

طفولة على قائمة الانتظار

كانت له أخوات من أبيه في سن والدته. تواصلت علاقتهن بزوجة أبيهم باعتبارها أختاً كبرى لهن. فحين يغيب والدهن في فراش زوجة أخرى، كن يبتن لديها بعض الليالي. وحين تخرج الشمس على أجسامهن كانت تعد لهن الطعام، فيفطرن جميعاً. وامتدت هذه العلاقة بين الزوجات أيضاً، ولم تدخلها المشاحنات والعداوات كما يحدث غالباً، بل كانت تميل إلى العلاقة الحميمة بين بعضهن بعضاً.


هذا الطفل - الذي حمل اليتم في أصغر جيوبه، وحمل موت إخوته رصيد طفولةٍ يقابل به الحياة التي تنتظره - خلق كل ذلك لديه حزناً مبكراً تراه حتى الآن في تقاسيم وجهه.

وبعد وفاة والدته قامت على رعايته جدته لأمه. فسكن بيتها ونعم بدفء كنفها. وهو بيت جده الحاج محمد علي المحميد. أخذت في تربيته وكان بالنسبة إليها تعويضاً عن ابنتها التي فقدت مبكراً، وكذلك رعته وخصته خالته أسماء بنفسها، فكان مدللاً له مكانة خاصة في هذا البيت الذي يمضي فيه الدفء.


عند دخوله عتبة التاسعة قرر والده استعادته وإرجاعه لبيته، غير أن جدته لم تقبل ذلك، إلا على شرط اشترطته، وهو مبيته في بيتها وقضاء نهاره معه. والوالد الذي يكن لها الكثير من الاحترام نزل على طلبها، وكذلك الابن علي كان يرتاح لبيت جدته، ورعاية خالته له. ويرجع سبب ذلك لنشأته فيه، وخصّه بالاهتمام دون سائر قاطنيه.


وقد أضافت الجدة على شرطها السابق ملازمة الابن علي أباه أثناء قضائه معاملاته التجارية. كانت بحسها الفطري تدرك أهمية ذلك في تكوّن هذا الطفل الذي سيرسم له المستقبل طريقا في التجارة كوالده، وكذلك هي بذلك تمنحه الثقة بالتعامل مع الآخرين تحت إشراف والده؛ وهذا ما وسع مدارك الطفل ابن التاسعة؛ وجعله يلامس الحياة الواقعية بأنامل ناعمة. ومنذ ذاك الحين كان هذا اليتيم ابن التاسعة يتجول مع أبيه في مناطق البحرين، يتعرف خلالها إلى طباع الناس، وطرق معاملاتهم، وإذا ما دعي الأب لحفل ما كان يصحبه، حتى إنه صار ينوب عنه عند بلوغه سن النضج. ومن هذه النافذة تعرف إلى الوسطين الاجتماعي والتجاري.


حينها كانت أولى خطواته التي أخذته للمدرسة، كانت مدرسة الهداية الخليفية، وهي أول مدرسة رسمية في البحرين. كان والده أحد المؤسسين لها، والقائمين على اختيار مدرسيها، سواء من بلاد الشام حيث قصدها لأكثر من مرة، أو من أماكن أخرى. وحضر علي الابن المرحلة الأولى له مستمعاً فقط. كان يجلس في آخر الفصل مع الطلاب المستمعين. كان ضمنهم أبناء حيه والأحياء المجاورة، والذين كان منهم جاسم الزياني وحمد بن محمد بن عيسى آل خليفة، وجاسم بن عبدالله وحجي جاسم كلداري وعبدالله مبارك العماري.


كان مدير المدرسة الأستاذ الفاضل عثمان الحوراني. كانت للحوراني عادة زيارة أولياء أمور الطلبة في بيوتهم، معتبرا أن ذلك من شأنه أن يقوي التواصل بين المدرسة وأولياء الأمور، كما كان يصر على إلقاء الطلبة الأناشيد والأشعار أمام المدرسين، معتبرا أن ذلك ينزع الرهبة من نفوسهم، ويقوي ثقتهم بنفسهم أمام الآخرين.


ذاكرة هذا الرجل ذاكرة منتقية. عند تذكره هذه المرحلة توقف لحظة ثم نظر إليَّ، قال لي: «أتعرف ماذا كنّا ننشد؟». ومن دون أن ينتظر إجابة مني قال:

«الشمس قالت للقمر:

أحبابنا كل البشر

نهدي لهم أرواحناً

دليل حب يا قمر»

كان فرح طفولي يطلُّ من عينيه. وذهب في سرده وذكرياته. شعرت بأني أشعلت ذاكرة طفولته، وتركته يتذكر بصوت واضح. أخذ يتحدث كأنه يحادث نفسه، وعلى شفته ابتسامة طفل. قال: «كانت الامتحانات في المدرسة شفهية، نعم شفهية. يحضر أولياء الأمور أثناء إجراء الامتحانات. واللباس الرسمي هو الثوب والغترة، ونعتبر أي طالب لا يلبس الثوب والغترة مرتكباً عيباً. وكنّا نطلق على من لا يضع الغترة حاسراً. الأشياء اختلفت كثيرا الآن». بهذه الكلمات ألقى بظهره إلى الكرسي، ثم صمت.


يسترسل في شغف: «كان يحرس المدرسة سعيد، وهو المسئول أيضاً عن (دفتر الغياب)، فعند بدء الصف الصباحي يقوم بجولته لأخذ الغياب. سعيد ينحدر من أصول عمانية، وكانت له مهمات أخرى غير حراسة المدرسة وأخذ الغياب. فبعد ذلك يقوم بجولة في الأحياء ليطمئن على الغائبين من الطلبة، ومن يجدونه متخلفاً من دون سبب، أو من يقوم بمخالفة قوانين المدرسة يتعرض للضرب». عند وصول فخرو إلى هذه اللحظة لفه صمت طارئ، ثم أردف: «كانت جدتي تمنعني من اللعب بالكرة. أتدري كانت تخاف عليَّ، لدرجة دفعها الخوف إلى أن تطلب من والدي منعي أيضاً، غير أني كنت ألعب مع الأولاد خفية. وأعتقد أن والدي كان على علم بذلك، ولكنه غض الطرف عامدا. عودةً لما كنت أقول بشأن المدرسة: كنت صيفاً أقيم في بيت والدي، وحين ذاك كنت أذهب إلى المطوع (معلم القرآن الكريم) الذي كان اسمه محمد نور. كان بيت المطوع مجاورا لبيت والدي. وأذكر جيداً أن محمد نور لم يكن يستطيع فرض سيطرته عليَّ - ثم ظهرت بسمة على طرف فمه - وعندما نصطاف في عراد كنت أذهب إلى سيدة فاضلة يقال لها عائشة أو مسلط، تنتمي هذه السيدة إلى عائلة سيادي. مكان تدريس القرآن الكريم يقصده الأولاد والبنات دون سن العاشرة. كان أهلنا حينا أو أهل المحرق عموماً من العائلات المعروفة تنزل تصطاف بعراد، منهم عائلتي وعائلة المحميد وعائلة فليفل وعائلة علي موسى العمران وعائلة الجامع.

وكانت من المدارس التي تفتح صيفاً مدرسة علي الزياني، وهي مكونة من خمسة فصول، ويقوم بالتدريس فيها الأستاذ أحمد عثمان الزياني، وهو يدرّس أيضاً بمدرسة الهداية الخليفية، ومع الأستاذ زكريا أحمد، كان يدرس مادة الموسيقى، غير أني لم أرتد هذه المدرسة، ولكني درست عند السيدعلي الموسوي قرابة عام. فقد عرف عنه تدريسه حساب الغوص والخط، كما كان يعطي طلبته نسخاً من كشوفات التجار ليقوم بتدريبهم عليها.


عند انتهاء الدراسة كنّا نقصد العمارة وهي محل تجارتنا. كنت أنا وإخوتي نعمل مع والدنا أثناء انتهاء الدراسة. كانت لدينا عمارة في منطقة النعيم، وكذلك لدينا عمارة في المحرق، أما مكتبنا الرئيسي فكان في المنامة. ولكل عمارة تجارة خاصة بها.

فعمارة المنامة كانت لبيع السيارات وقطع غيارها، أما عمارة النعيم فكانت لأدوات البناء، وهي عبارة عن أربعة محلات، منها محل لبيع الأخشاب، ومحل لأدوات البناء، وأما عمارة المحرق فكانت لبيع المواد الغذائية، مثل التمر والرز والعدس والطحين. أذكر كان لدينا عدد من السفن الخاصة لجلب المواد الغذائية، وغالبا ما كانت تقصد الهند لجلب هذه المواد، وفي الأيام العادية كانت سفننا تجلب الطحين من كراتشي أو البصرة، فلم يكن هناك طحين في البحرين، وكانت سفينة البوم تحمل ألفي كيس طحين إلى ثلاثة آلاف. ومع دخول الماسون (ريح شديدة)، فإن السفن لا تذهب إلى الهند، وكذلك عند نزول الأمطار؛ لأن السفن الشراعية لا يمكنها الإبحار. فمنذ أول شهر مايو/ أيار إلى غاية شهر سبتمبر/ أيلول تتوقف السفن في الميناء. وحين يدخل موسم الأمطار على سفينة موجودة خارج البحرين، فإنها تلزم الميناء الذي رست فيه، ولا تبحر حتى خروج الموسم، ولم يكن ذلك مقتصرا على السفن الشراعية فقط، فحتى السفن البخارية كانت تتجنب الإبحار في هذا الموسم. سفننا كانت تنقل التمور من البحرين إلى الدول الأخرى وتجلب الطحين والعدس والرز والبضائع الأخرى منها.


غير أني لم أبحر مع سفننا، إلا مرة واحدة وهي عند سفري إلى صور، حين كنت قاصداً إمارة دبي. فلم تكون البواخر متوافرة، وكذلك الطيران الذي كان أقل بكثير. لذلك ذهبت إلى صور ثم دبي. وأول مرة تخطو قدمي على طريق السفر كان في العام 1941م، والتي أبقتني في دبي وأنا ابن الـ16 ربيعاً.


كنت لا أبارح والدي قبل ذلك، وكذلك هم إخوتي. فقد كنّا معه في تجارته. هذه التجارة متنوعة. فقد كان لدينا وكالة سيارات كثيرة، وقد كنت أميل لهذه التجارة، فتخصصت في بيع أجزائها (قطع الغيار). كانت لدينا وكالة كل من انترناشيونال وهكسن بوكر التي تعد آخر شركة أخذنا وكالتها، كما تعد هذه الشركة في زمنها أكبر من شركة الكاديلاك حالياً. كان لدينا وكالة كل من بلايبوث ودودج ووكالة كلايسلر، وهذه الأخيرة أعطيت وكالتها لنا من قبل عائلة كتّانة. فقد كانت هذه العائلة والوكيل الرسمي على مستوى الشرق الأوسط. هي عائلة لبنانية لم تدم معاملتنا معهم بسبب الاختلاف بيننا، والذي على أثره ألغينا ارتباطنا بهم، لنأخذ بعدها وكالة الهيدسون. وأكثر هذه الشركات التي تكلمت عنها، والتي كانت لدينا وكالات منها أقفلت بعد ذلك.

بعدها توليت بيع وترويج وكالة فيليبس للالكترونيات، وهو العمل الذي أخذ أطول فترة من حياتي. هذه الفترة عشتها في كنف والدي ببيتنا الكائن بمدينة المحرق. وبعد وفاة والدتي في الخامس عشر من شهر رمضان الكريم الواقع في سنة 1941م، كنت لا أزال أرتاد المدرسة، ولكن بعد الانتهاء من الدراسة توجهت لإمارة دبي؛ دفعا من والدي، لإدارة أعمال مكتبنا هناك.



لم أكن أعتقد أن مرحلة مراهقتي يمكنني تسميتها بذلك. فلا أذكر فعلاً أني مررت بما يمر به المراهق، إذ لم أكن أخرج مع أصدقاء لي، بل كنت ملازما لوالدي. وحتى أصدقائي ينتمون لطبقة معينة، وما نفعله هو التزاور فيما بيننا ضمن حدود مجالسنا، وهذه الصداقات تكونت عن طريق المدرسة، وكذلك مع أبناء بعض العائلات المجاورة لنا في الحي، إذ كانت من الأمور التي تعد معيبة جلوسنا في المقاهي العامة، حتى إن قدمي لم تذهب بي إلى أرض مقهى إلا حين كنت متزوجاً. عموماً دام مكوثي في إمارة دبي قرابة سبع سنوات. كنت مشغولا أثناءها بتعبئة السفن، وإرسالها إلى كل من البصرة والهند والكويت، ففي فترة الحرب العالمية الثانية منعت البحرين من تصدير البضائع عبر مينائها.


إمارة دبي أو ميناء دبي كان أكثر نشاطا أيام الحرب. فقد كان التصدير منها يتجاوز المتوقع بسبب توزيع المؤونة، إذ قدر عدد سكان إمارة دبي لوحدها بمليون ونصف المليون، على حين تعداد قاطني إمارة دبي لا يتجاوز في أحسن أحوالة 200 ألف نسمة؛ وهذا ما أنتج فائضا لديها بسبب توزيع مؤونة الحرب. فتم تصدير الفائض والاتجار به، على حين تم تقدير قاطني البحرين بثمانين ألف نسمة، غير أن تعداد البحرين الواقعي يفوق هذا العدد بكثير. وسمحت حكومة دبي بتصدير نسبة معينة للتجارة، وهي بمقدار عشرة آلاف صندوق شاي أو ما يعادل 100 ألف كيس شاي، كما يحق لهم تصدير السكر، على حين كانت كلفة كيس السكر لا تتجاوز ثلاثين روبية، علماً أن دبي كلها لا تستهلك نسبة 5 في المئة من مؤونة السكر لديها. فكان الأهالي يبيعون قسماً كبيراً منها. فكان سعر الكيس لا يقل عن 350 روبية، كما كان يهرّب إلى الدول المجاورة مثل إيران، لتصل قيمة الكيس الواحد إلى ألف روبية، وكذلك كان الأمر مع إطارات السيارات، فقيمة الإطار الواحد لا تتجاوز 16 روبية، وهذه قيمته مع شحنه من اليابان، ولكنه يباع في دبي بخمسين روبية، ومن ثم يصدر إلى الكويت بألفين روبية؛ بسبب شح الموارد والمواد أثناء الحرب. فكان ميناء دبي يغص بالتجارة، وعلى الجهة المقابلة الحرب تأخذ دورها أيضا.

سكنت في إمارة دبي بمجلس الشورى الذي حدث فيه الانقلاب. فقد قمت باستئجاره، إذ كان يعود بملكيته لعبد اللطيف. كان هذا البيت مطلا على البحر، وقريبا من مكان تجارتنا، كما كانت لدينا علاقة جيدة بحكام إمارة دبي. فقد كان الشيخ سعيد والشيخ راشد يزوراننا بين الحين والآخر في البحرين، ومن هنا نشأت صداقتي بهما. وهذه الفترة دفعت أكثر تجار البحرين إلى فتح مكاتب لهم في دبي، منهم على سبيل المثال عائلة مصطفى عبد اللطيف، وعائلة فاروق وعائلة بدري وكذلك عائلة خان بهادر.

كان رأس المال الذي دفعني في أول الأمر إلى دبي، وجعلني أعمل فيها في التصدير مصدره والدي، فعندما طلب مني السفر إلى إمارة دبي وضع بيدي حقيبة. في أول الأمر كنت أجهل ما بها، وحين وصلت إلى دبي فتحتها لأجدها مليئة بالأوراق النقدية، وكذلك أعطاني أخي الأكبر دفتراً وضع فيه ما يجب علي شراؤه من البضائع، مع بعض الملاحظات.

انظر

صحيفة الوسط العدد 1969 الاحد 27 يناير 2008 الموافق 18 محرم 1429 هــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القول الجلي في تحقيق مولد سمو الشيخ عيسى بن علي بقلم الباحث بشار الحادي

القول الجلي في تحقيق مولد سمو الشيخ عيسى بن علي وهو سمو الشيخ عيسى بن علي  بن خليفة آل خليفة حاكم البحرين طيب الله ثراه ...